دعوني أحلل عنوان المقال سريعاً، ثم نغوص بالتفاصيل!
بدأت الكويت ما قبل العمل بالدستور عام 1962 بوضع رؤية تنموية تهتم بالتعليم والإبداع والابتكار والتّعبير وفنون التمثيل والتصوير والموسيقى والنحت وتشجيع كل ما يثري المجتمع والفرد ثقافياً، فانطلقت الكويت ووضعت حجر أساس لتكون نجماً ومنبراً تعليمياً، وثقافياً وفنياً حقيقياً في هذه المنطقة وتضع فجوة قياسها سنوات من الحرية والانفتاح بينها وبين شقيقاتها في إقليمها الخليجي والعربي، فكانت مؤشرات ونتائج هذه الرؤية نوعية وليست كمية فقط.
بزغ نجم الممثلين الأوائل، والموسيقيين، والنحاتين - عبدالرؤوف مراد هو من نحت تمثال عبدالله السالم (رجل الدستور) الذي تم مصادرته من الإسلاميين لحرمة التماثيل من جنود عصر الصحونج والتطرف الديني - حتى موعد توقيع الأمير الراحل الملقب بـ "أبو الدستور" عبدالله السالم الصباح على الدستور الكويتي الجديد علم 1962، وهو مجموعة عقود اجتماعية اتفق عليها من كان في الكويت ذلك الحين، من متعلمين ومثقفين وأسر كويتية كانت تميل للانفتاح نحو العولمة.
فمنذ العمل بالدستور من خلال المؤسسة البرلمانية التشريعية طيلة الـ60 عاماً وحتى يومنا هذا، انحدرت الكويت، وظهرت شعارات تدافع عن أي تعديل أو تنقيح دستوري لمواكبة المتغيرات الإقليمية والعالمية على شتى الأصعدة، فأتت أمزجة في القيادة السياسية من وافق تأسيس تيار ديني سياسي، اعتقاداً منهم أن ذلك سيقضي على الدستوريين من تيارات أصولية غير دينية والليبراليين الأوائل من وضع يده بيد السلطة من أجل نهضة البلد والعمل المتواصل.
أتى التيار الديني السياسي الذي كان صنيعة السلطة في السابق وامتداداً للتنظيم العالمي وجسراً للصحوة المتطرفة التي عصفت في المنطقة، فأصبح الليبرالي المنفتح الذي وضع نفسه بين صفحات هذه الوثيقة الكبرى - الدستور الكويتي - هو الحلقة الأضعف، ثم تغير المزاج المجتمعي وتحول إلى «محافظ متشدد» بعد أن كان معتدل يحترم موروثه الديني وثقافته الخليجية العربية.
وبعد وصول «تجّار الدين» إلى ثقة السلطة والمراكز المؤثرة تشريعياً، تنفيذياً وقضائياً، تمكنوا من تفكيك التيارات الأصولية أمثال الاشتراكيين والناصريين والعروبيين، وصولاً إلى اليبراليين، وضعوهم في مناصب وزارات التوجيه الاجتماعي كفخ لإسقاطهم - وزارتي الإعلام والتربية - فتم الإقصاء الممنهج باستخدام أداة الاستجواب البرلمانية وبمعية الحكومة، فلم يفرّق هذا المشروع الذي قلب الموازين السياسية الاجتماعية بين أفراد الأسرة الحاكمة الذين حاربوا التيار الديني المتطرف - ضد تنظيم الإخوان المسلمين المتطرف والتيار السلفي - ولا المثقفين من أفراد الشعب.
وبعد كل هذا وصلنا لنتيجة حتمية؛ استشرى الفساد، وتراجعت مؤشرات الأداء الحكومية، ثم تراجع ترتيب الكويت في كل مؤشرات التعايش والتعليم والحرية والفساد عالمياً، أقولها وبكل حرقة.
للأسف؛ كلماتي هذه ليست سوى تشخيصاً وتحليلاً بعد أن رشّحت نفسي ووضعت آراءً تصدرت الرأي العام الكويتي - مدنية متعايشة مواكبة للخليج - وحاربني وسوّق لتخويني من نضج في هذه المواقع السياسية من التيار الديني المتطرف لإخراس صوت ليبرالي دستوري، فأصبحت الكويت مؤخراً تتغنى بدستور لا تطبّقه على أرض الواقع.
فبعد تحوّل الكويت من الحياد الإيجابي إلى الحياد السلبي، ومن هذا الحياد السلبي إلى العزلة الخليجية والعربية، أصبحت كويت 1955 - المثقفة الحضارية الفنية المتعلمة المتطورة - منبراً لتصدير التطرف الديني ووثائق الإقصاء المدني وفرض وصايا متشددة ومتطرفة دينية على مجتمع أصبح لا يعلم ما هو مصيره، ويفكّر جدّياً بمغادرة البلاد.
فالذي قضى على دولة الحضارة مظهراً ومضموناً وتقدّماً هو «الديمغراطية»! وأصبح مشروع تعليق الدستور وتنقيحه ومراجعة المركز القانوني في التشريع والرقابة والتنفيذ ضرورة مُلحة.