: آخر تحديث

نوازع السلطة المطلقة وصولجان السلطان

63
61
40

في تجربة فريدة قامت بها جامعة ستانفورد  العريقة في الولايات المتحدة خلال سنيّ السبعينات من القرن الماضي لمعرفة مدى تأثير السلطة المطلقة في تخريب وتلويث النفس البشرية وقوة تأثيرها في زعزعة القواعد والأخلاق والمثُل الانسانية لدى البشر فقد قام عالم النفس الاميركي" فيليب زيمباردو" الاستاذ في الجامعة نفسها باختيار مجموعة من الطلبة ليمثّلوا ادوار سجّانين ومجموعة اخرى من زملائهم ليمثلوا ادوار نزيلي سجون .
كان مسرح التجربة التي سميت / سجن جامعة ستانفورد ومكانها في قبْوٍ كبير تحت بناية الجامعة وقد اعطى الدكتور فيليب زيمباردو/ القائم والمشرف الرئيسي على تلك التجربة لما له من بحوث هامة في هذا المجال اعطى للجلاّدين الطلبة والقائمين على السجن المفترض صلاحية ما يجري في السجون العادية تماما حيث لا قواعد عليهم في اتخاذ اية تدابير ممكنة للحفاظ على نظُم السجن دون اية مساءلة او عقوبات تفرض عليهم سواء من الدولة او من منظمات المجتمع المدني او منظمات حقوق الانسان 
وقد حُبِكت هذه التجربة بشكل غاية في التماثل لما يدور في السجون الاميركية العادية بحيث ارتدى الطلبة السجانون زيّ ضباط الشرطة واقتادوا الطلبة المساجين من بيوتهم المجاورة بعد ان قيّدوهم بالأصفاد تماما كما يفعل عتاة السجّانين مع ضحاياهم .
ومن خلال شاشات المراقبة التي نُصبت في مسرح الحدث لاحظ الفريقُ المراقب وفي مقدمتهم الدكتور زيمباردو مدى الوحشية التي تعامل بها الطلبة الذين تقمصوا دور مسؤولي السجن الذين اعطيت لهم صلاحية العمل وفق ما يدار في السجون العادية وكانت النتيجة كارثية بحق؛ اذ ظهرت بوادر عدوانية من لدن الطلبة السجانين تصل الى حدّ الميول الساديّة لم تكن متوقعة تجاه زملائهم نزيلي السجن بحيث تم ايقاف التجربة فورا لما لاقاه الضحايا من عنتِ زملائهم الذين قاموا بادوار جلادي السجون ومراقبيهم.
تساءل المختصون الحضور: ما الذي جعل هؤلاء الطلبة الوديعين اللطفاء ان يقوموا بهذه التصرفات الغريبة تجاه زملائهم السجناء وكلهم عرفوا بتهذيبهم وأخلاقهم العالية وتفوّقهم الدراسي وتعاملهم الظريف والحسن مع زملائهم في الظروف العادية ؟؟!
تبين بعد النقاش والتحليل النفسي والمراقبة الدقيقة لهؤلاء ان لاشيء سوى السلطة المطلقة وحدها التي افسدتهم وجعلتهم اسودا ضارية وأنبتت في افواههم انيابا حادة وألسنا بذيئة القول ونمّت في ايديهم اظفار النسور ومخالب الوحوش فما أشرس هذه السلطة حينما تسري سمومها في اوصال الجسد والروح فتقتل كلّ ما هو بهيّ داخل الانسان فتلعب بالضمير وتُلبسه السواد وتُسقم العطف والمحبة والحنوّ وتُقضي على ما تبقّى له من سِمات إنسانية فيغدو وحشا جائعا يصعب جدا مواجهته والوقوف امامه. 
وعلى الفور اوقف الدكتور فيليب زيمباردو التجربة موقنا بان السلطة المطلقة تُخرج أسوأ مافي النفس البشرية من شرور وحقد وكراهية كانت مطمورة في اعماق الانسان وتكاد تشبه خلايا الارهاب النائمة.
يذكرني هذا الموقف بحالة مررت بها في اواسط السبعينات من القرن الماضي اذ تخرجتُ من جامعة بغداد / كلية الآداب العام/ 1974 وكان عليّ ان اؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية سنةً واحدة جنديا مكلّفا في قواتنا العراقية المسلّحة وبعد تدريب اساسي لمدة وجيزة أمَدُها اربعون يوماً نُقلت الى ربيئة نائية في شمال العراق فبقيت هناك بضعة شهور راضيا صابرا انتظر انتهاء خدمتي العسكرية، لكن الرياح جرت على غير ما أشتهي فإذا بي ارى احد زملائي ومن خيرة اصدقائي المقرّبين الحميمين حيث كان يلازمني طيلة سنوات الدراسة الجامعية وقد جرى تنسيبه في موقعنا العسكرى آمرا لسريتنا لكونه ضابطَ احتياط.
هللتُ فرحا بمقدمهِ وخلتُ ان الايام المقبلة هنا ستكون سعدا وهناءً، كيف لا وهذا الصديق المثقف الذي رافقني كثيرا بداية السبعينات من القرن الماضي في زياراتنا الى غاليريهات الرسم وصالات السينما والندوات الأدبية والشعرية في اتحاد الادباء ومهرجانات شعر قاعة الحصري بكلية الاداب يوم كنّا نصغي الى نزار قباني ونصفق له اعجابا وترحيبا وهو يُلقي علينا قصائده وجها لوجه، يوم بكينا معاً ونحن نستمع الى مرثية محمد مفتاح الفيتوري للرفيق الشهيد اليساريّ عبد الخالق محجوب، وحضرنا معاً حفلة السيدة فيروز في الجامعة المستنصرية والتي غنّت لنا ضمن وصلاتها الغنائية (بغداد والشعراء والصور ُ----- ذهبُ الزمان وضوعهُ العطِرُ) ومهرجانات الغناء التي ضمّتْها قاعة الخلد وزياراتنا الى المراكز الثقافية الاجنبية العديدة التي كانت منتشرة بكثافة ايام كانت بغداد اشعاعا ثقافيا أزلياً لا ينطفيء.
ومع انه كان بعثيّ الانتماء وانا الفتى الماركسي الشديد الاعتزاز بمبادئي لكننا كنا صديقين حميمين لا يفترقان مثل مالك وعقيل كما يقول مثلُنا العربي السائر.
ظننتُ انه سيبدد وحشة المكان ويسد حاجتي الى الصديق المؤنس في تلك الربيئة النائية ويعيد الينا ذلك البهاء في العلاقة الاخويّة المتينة منذ ان التحقت بالجيش جنديا والتحق هو بالجيش ضابطا مع اننا كنا سوية في فصل واحد (هكذا كان معيار ونظم الحزب الحاكم وقتذاك المعتمد اساسا على اعتبارات سياسية محضة، فمن كان بعثيا لائقا صحيا يساق لكلية الضباط الاحتياط وما عدا ذلك يساق زملاؤهم الى الجيش جنودا مكلّفين)
غير ان آمالي وتوقعاتي انهارت بغمضة عين فقد أنفَ واستخسر حتى ان يمدّ يده اليّ مصافحا وانتفخ كالطاووس مزهوّا بالنجمة اليتيمة التي اعتلت كتفه وكأنه فقد ذاكرته تماما حينما رأى نفسه متسلطا على ما يقارب الثلاثين جنديا تحت إمْرتهِ وذقْتُ منه الويل والمرار والعذاب والحرمان حتى من اجازتي الدوريّة بذرائع واهية حتى وسوستْ لي نفسي على الهروب مهما سيؤول الامر ودون تفكير بالنتائج الوخيمة التي تترتب على فراري من الجيش وضياع مستقبلي الذي تنتظره أسرتي الفقيرة والتي ربما تصل الى حدّ الاعدام رميا بالرصاص وأقنعت نفسي بتحمّل ما يصدر منه حتى لو كان بثقل الجبال حتى تنتهي تلك الشهور المتبقية من السنة.
لا تقولوا لي ان صاحبي فاقدٌ للأخلاق والمثُل العليا فانا اعرفه من منبت طيّب وأسرة صالحة وديعة وقد تغذى من الوعي والثقافة ما تنير دربه وتصقل عقله وقلبه ولكن السلطة ما أبشعها حين تتوغل في اوصال المرء وتفقده بريقه الانساني وحنوّه على بني جلْدته فيكون اقرب المقرّبين عدوّا واصدق الاصدقاء ندّاً كريهاً.
ويجدر بي ان اذكر ايضا حالات مررت بها وانا مشتت في تخوم الارض حيث تعرّفت – حين كنّا في المنافي— ابان الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم على نخبة من رجالنا في المعارضة العراقية لنظام الحكم البعثي في العراق وأصدقكم القول فقد كانوا نموذجا للإنسان الذي يقرب من الملاك في طُهْره وعفّته وأخلاقياته السامية وكنا نقتسم الشحيح من الطعام معا ونعتاش على القليل من المساعدات التي تمنحنا دول اللجوء ونرضى بما قسم الله لنا ونزور بعضنا بعضا ويُسند احدنا الآخر لو اصابت احدهم ضائقة عسيرة ام مُلمّة ما، كنا معا اصدقاء يعتزّ احدنا بالآخر، عشنا السرّاء والضراء ونحن بعيدون عن بلادنا ونتلهف للّقاء والراحة بأحضان وطن فارقناه رغما عنّا، نحلم بان نجتمع كلنا أسرة واحدة في ربوع وادي الرافدين ونعيد بناءه وفق أهوائنا وكما كنّا نلتقي في الشتات، نرسم لوحة جميلة لبلادنا العزيزة.... واذا ببعضهم الآن ينقلب رأسا على عقب حالما تسلّم زمام السلطة وبدأ يستأسد على شعبه ويُبرز اعتى شروره ويُظهر مطامعه وجشعه وينهش الاخضر واليانع مثل حيوان جائع ويفترس رعيّته التعبى ويأكل اموال الفقراء واليتامى والمساكين بالباطل.
من الذي جعل هؤلاء من ملائكٍ أطهار يخشون ربهم الى اباليس أشرار؛ ولصوص ليلٍ او نهار؟؟! ، لا شيء سوى السلطة المُفسدة للانسان ويزداد فسادها كلما كانت مطلقة بلا رقيب او حسيب ولا تعبأ بالرأي العام مطلقا وترى كل من يخالفها عدوا شرسا وتفعل ما تريد على هواها وهي سمة الدكتاتوريات والانظمة ذات الحزب الواحد المتفرد بالسيطرة على مقدرات الشعوب.
يبدو ان قشرة الطبْع قد اصبحت اكثر رقّة من الحرير وأخفّ من هشاشة شغاف القلوب ومن السهل انتزاعها وسلخها من اجسادنا وضمائرنا حالما نمسك سلطتنا فنكون سلاطين؛ قساة القلوب نمسك بالسيف والصولجان، نأمر وننهي وننفخ اوداجنا ونقطّب جبيننا على اقرب مقرّبينا ونركلُ الصداقة الحميمة والعلاقات البشرية السامية بحذائنا وننسى اننا كنا يوما ما ضحايا العنف والقهر والذلّ فنرتدي قشرة التطبّع رداءً ونُنبت في اطرافنا اظافر ومخالب حادّة ونزرع في افواهنا انيابا مفترسة ونلبس ما اخشوشن من جلود حيوانات الغاب ونفتح افواهنا كالتماسيح الجائعة لنلقف كلّ ما يُرمى الينا ولم نتوانَ حتى من أكل لحوم أشقّائنا البشَر.
اجل السلطة مفسدةٌ والسلطة المطلقة مفسدةٌ مطلقة كما قال ميشيل فوكو.
كم نحن وديعون اذا ضعفنا ومتوحشون اذا تسلّطنا.


[email protected] 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي