: آخر تحديث

قندهار

49
44
51

بتزكية من الأميركان، عاد جماعة "طالبان" ليحكموا أفغانستان من جديد . وكان الأميركان هم الذين جاؤوا بهؤلاء القتلة إلى السلطة في كابل لقطع الطريق على ما كان يُسمى بالاتحاد السوفياتي في بداية الثمانيات من القرن الماضي. وبعد أحداث سبتمبر-أيلول2011 ، أطاحوا بهم.  وكنا نظن أنهم لن يعودوا أبدا إلى السلطة، إلاّ  أنهم  تمكنوا خلال العقدين الأخيرين من استرجاع نفوذهم وقوتهم ليزحفوا على عاصمة بلادهم وعلى بقية المدن الأخرى مستأنفين أعمالهم الاجرامية تجاه شعبهم من دون أن تعترض على ذلك  لا الولايات المتحدة، ولا حلفاؤها من الدول التي تزعم أنها  راعية  للديمقراطية... 

والبارحة شاهدت فيلما بديعا بعنوان :"قندهار". وهو يرسم صورة حيّة ومؤلمة عن أفغانستان في ظل حكم طالبان، وعن  المآسي والنكبات التي تتخبط فيها منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي، والتي أغرقتها في العنف، وفي المجاعات ليدفع الثمن في النهاية الفقراء والمعدمون والنساء والأطفال...

ويروي الفيلم قصة فتاة أفغانية تتمكن عائلتها من الفرار من البلاد لتحصل على اللجوء في كندا. وذات يوم، تصلها رسالة من أختها التي ظلت تعيش في قندهار، وفيها  تخبرها أنها قررت الانتحار في اليوم الأول من الألفية الجديدة، يأسا من حياة لن تعْد تحتمل في ظل نظام بغيض أجبر النساء على وضع البُرْقع، وحرّم عليهن زيارة الطبيب، والدراسة، والذهاب إلى العمل. وتحقيرا لهن أصبح النظام يُسميهن "الرؤوس السوداء".

وكل امرأة تُعامل كما لو أنها كائن زائد عن اللزوم. لذا هي مُجردة من كلّ حقوقها، ولا دور لها سوى انجاب الأطفال، وخدمة الزوج...وعندما تصل إلى  أفغانستان، تجد الفتاة الشابة ذات الجمال الفائق نفسها مُجبرة على وضع البرقع. وأثناء رحلة البحث الشاقة والمضنية عن أختها، تواجه مصاعب كأداء. ففي كل يوم يعترض طريقها لصوص ومهربون وقطاع طرق يتربّصون بالمسافرين، وبعصابات مُسلّحة  تتفنّنُ في قتل كل من يتحداها،  ويرفض أوامرها.  كما أن الألغام كانت تنفجر بين وقت وآخر لتحصد أرواح الأبرياء.

وذات يوم، توقفت الفتاة في قرية صغيرة بين الجبال، ولم يكن فيها غير رجال وشبان فقدوا  أرجلهم أو أيديهم. وجميعهم جاؤوا إلى تلك القرية حيث مقر الصليب الأحمر ليحصلوا على أيد، وأرجل اصطناعية. وأمام ذلك المشهد المأساوي، ترتاع الفتاة الشابة فتلوح لها البلاد وقد امتلأت حدّ الفيض بالمشوهين والعاجزين والمرضى والمصابين بعاهات مستديمة...وتكتشف الفتاة أيضا أن الأطفال الصغار تحولوا بسبب الفقر والحروب المتتالية،  إلى لصوص، ومتحيّلين، وقتلة بلا قلب، وبلا  ضمير...الواحد منهم لا يتردد في ارتكاب أفظع الجرائم لضمان قوته اليومي، والبقاء على قيد الحياة.

والطفل الذي منحته مائة دولارا لكي يساعدها  على  الوصول إلى قندهار، يتخلى عنها في الطريق، ويتركها وحيدة في الصحراء بعد أن رفضت أن تشتري  منه خاتم امرأة عجوز وجدها ميّتة على قارعة الطريق... وكانت الفتاة الشابة تسير في موكب عرس لما هجم رجال مُسلحون على النساء بهدف تفتيشهن. وفي نهاية عملية التفتيش، تُقَاد الفتاة الشابة  إلى السجن الرهيب التي سمعت عنه قصصا مُرعبة وهي في منفاها الكندي.

يمكن القول أن أفغانستان هي شهيدة التطرف الديني بامتياز... وقد دفع أبناؤها الثمن غاليا جدا بسبب ذلك. وقبل أن تتكالب عليها  النكبات والفواجع ، وفيها تحولت الحروب إلى مسلسل مرعب بلا نهاية، كانت أفغانستان بلد ينعم بالاستقرار والطمأنينة.  وفي السبعينات، كانت كابل تتمتع بمباهج الحياة العصرية.  ولم تكن هناك  قيود على حرية الرأي والتعبير. ولأن العيش كان يطيب فيها، فإن أعدادا كبيرة من الشبان الغربيين الفارين من صخب المدن ، كانوا يأتون إليها  بحثا عن السكينة، وعن بساطة العيش بحسب المفهوم الرومانسي.  غير أن تلك الحياة الهادئة المستقرة لم تلبث أن تقوّضت.

في البداية كان الشيوعيون هم الذين أفسدوا تلك الحياة إثر اطاحتهم بالنظام الملكي بمساعدة موسكو. ومنذ ذلك الحين انفتح باب جهنم على مصراعيه أمام الأفغان لتغرق  بلادهم  في الفتن، والحروب، والفوضى المدمرة. وعند سقوط النظام الشيوعي، تحوّلت كابل والعديد من المدن الأخرى  إلى خرائب وكتل من الأنقاض.  ثم زحف أمراء الحرب على البلاد  ليغرقوها في المزيد من المجازر.

في النهاية، برز في المشهد جماعة طالبان  ليفرضوا على الناس قوانينهم المجحفة التي تحرم  الموسيقا، والسينما، وارتداء الجوارب البيضاء، وغير ذلك من المتع الصغيرة. كما أن هذه الجماعة قامت بتدمير التماثيل البوذية باعتبارها أوثانا،   وحبست النساء في البيوت باعتبارهن "عوْرة"، وجعلت من العثنون الوسخ رمزا للرجولة وللإيمان  الصحيح....

وعلى أية حال، لا تختلف أفغانستان عن كل البلدان الأخرى التي سيطر عليها المتطرفون. ففي جميع هذه البلدان جعل هؤلاء  من الإسلام  ذريعة لتعذيب وتجويع الشعوب وتحويلها إلى قطيع مُطيع يفعلون به ما يشاؤون وما يريدون وهم على يقين أنهم خلفاء الله على الأرض. وأفضل من يجسد شريعة الإسلام ومبادئه الحنيفة..


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في