: آخر تحديث

مرحلة «الدولة الذكية»

3
3
3

لم تعد الحكومات تُقاس اليوم بعدد دوائرها الادارية ومبانيها أو بضخامة أجهزتها الوظيفية، بقدر ما تُقاس بقدرتها على إدارة التحول الرقمي بوصفه خيارًا سياديًا. كذلك الفارق الجوهري بين حكومة رقمية ناضجة وأخرى مُرقمنة شكليًا لا يكمن في عدد التطبيقات أو الخدمات الإلكترونية، بل في الفلسفة الإدارية، وجودة الحوكمة، وطريقة اتخاذ القرار. من هذا المنطلق، لا يمكن التعامل مع حصول المملكة العربية السعودية على المرتبة الثانية عالميًا في مؤشر نضج الحكومة الرقمية لعام 2025 بوصفه خبرًا عابرًا، بل كإنجاز عالمي يعكس تحولًا بنيويًا عميقًا في منهجية إدارة الدولة، وانتقال واعٍ من مرحلة "رقمنة الخدمات" إلى مرحلة "الدولة الذكية"، وهو فارق لا تدركه إلا الحكومات التي فهمت أن التحول الرقمي ليس ترفاً تقنياً، بل مشروع إستراتيجي.

هذا المؤشر الصادر عن مجموعة البنك الدولي، والذي شمل تقييم 197 دولة، لا يُعنى بوفرة الخدمات الإلكترونية بقدر ما يقيس نضج المنظومة الحكومية بأكملها: كيف تُدار البيانات، كيف تُصمَّم الخدمات، كيف تُبنى القرارات، وكيف يُوضَع المستفيد في قلب التجربة الحكومية. في هذا السياق، برزت المملكة بتحقيقها معدلًا عامًا بلغ 99.64 %، لتُصنَّف ضمن فئة "الدول المتقدمة جدًا"، في دلالة واضحة يعكس توازنًا دقيقًا بين كفاءة الأنظمة الحكومية، وجودة تقديم الخدمات، ومستوى التفاعل الرقمي، وعمق التحول المؤسسي.

هذا الأداء لا يعكس نجاح مبادرات متفرقة أو حلولًا مؤقتة، بل يجسد نموذجًا حكوميًا ناضجًا يقوم على إطار مؤسسي متكامل، تقوده هيئة الحكومة الرقمية بوضوح في الأدوار، وانضباط في المعايير، وتكامل حقيقي بين الجهات. وما تحقق لم يكن قفزة مفاجئة، بل نتيجة مسار تراكمي مدروس، انتقلت خلاله المملكة من المركز 49 عالميًا في عام 2020، إلى المركز الثالث في 2022، ثم إلى المرتبة الثانية في 2025؛ وهي قفزات لا تتحقق في مؤشرات دولية معقدة إلا عندما تتغير طريقة التفكير، وتُعاد هندسة الإجراءات، ويُدار التحول الرقمي كأولوية وطنية عليا.

والأهم من الترتيب ذاته، أن هذا النضج الرقمي ينعكس مباشرة على حياة الناس: خدمات أبسط، ووقت أقل، وشفافية أعلى، وقرارات تُبنى على البيانات لا على الاجتهادات الفردية، بما ينسجم بوضوح مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 التي وضعت المواطن والمقيم في قلب عملية التحول.

كما يتجاوز هذا الإنجاز بُعده التقني ليغدو أداة تسويق وطني عالية التأثير، تعزز الصورة الذهنية للمملكة كدولة حديثة قادرة على إدارة التحول الرقمي بكفاءة وموثوقية. وهو ما يمنح الرسائل التسويقية للمملكة مصداقية دولية قائمة على مؤشرات وبيانات، لا على شعارات، ينعكس بذلك مباشرة على تسويق بيئة الاستثمار عبر ترسيخ الثقة في الأنظمة الحكومية، وسرعة الإجراءات، وشفافيتها، فضلًا عن دعم تسويق جودة الحياة وجاذبية المملكة للعيش والعمل والسياحة.

إن وصول المملكة إلى المرتبة الثانية عالميًا في نضج الحكومة الرقمية ليس محطة نهاية، بل خطوة جديدة في سباق عالمي متسارع، تؤكد أن السعودية لم تعد تلاحق التحول الرقمي، بل أصبحت من الدول التي تشارك في صناعته وتؤثر في تشكيل معاييره.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد