سهام القحطاني
كان ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وقبلها السينما التلفاز ليس ثورة في مجال التواصل والاتصال بل ثورة في لغة التواصل ذاتها، وتحول السلطات في مجال اللغة بين المصدر الأساسي «الأديب،الكاتب،الشاعر» إلى المستقبل أو الجمهور، والذي أظهر فيما بعد مصطلحات مثل «الرأي العام، وهذا ما يُريده الجمهور» وهذا الانتقال كما يصفه الغذامي كان بمثابة «سقوط للنخبة» ونزع وصاية تشكيل الخطاب الثقافي من المبدع إلى المتلقي، مقابل صعود الشعوبيّة وسلطة المتلقي و سيادة خطاب التفاهة.
ولعل اللغة تعتبر من أهم مؤشرات التغير في تشكيل الخطاب الثقافي بتصنيفاته المختلفة.
وأول ظهور لسلطة الموقف التواصلي للمتكلم في العصر الحديث ارتبط بقضية العامية والفصحى، وترجيح العامية باعتبار أنها لغة المتلقي في التواصل والفهم، ولغة الشيوع ووسائل الثقافة الجديدة مثل التلفاز والسينما والإذاعة.
وقد عززت المدرسة الواقعية في الأدب سلطة الموقف التواصلي للمتكلم باعتبار الأدب هو انعكاس للواقع، وأصبح معيار صدق؛ أي ما يصدقه المتلقي بحكم واقعه تفاعله المعيشي والسلوكيات اللغوية لذلك التفاعل.
فمؤشرات الواقع الاجتماعي قد أسهمت في تكثيف سلطة المتلقي في تشكيل الخطاب الثقافي، فالفئة الغالبة وخاصة في المجتمعات العربية هي من فئة الأطفال و المراهقين و الشباب، هذه الفئة التي بدورها تمثل سلطة قوية في حركة الخطاب الثقافي سواء في لغته أو أفكاره، وما عزز قوة هذه السلطة ظهور مواقع التواصل الاجتماعي و هيمنة المراهقين عليها والتحكم في حركتها.
وهيمنة هذه الفئة على الخطاب الرقمي كان من أهم نتائجه ظهور ثقافة التفاهة والمواقف اللغوية الحاصلة منها أو الداعمة لها.
وأصبح المبدع حتى يحافظ على جماهيريته لابد أن يسعى إلى إرضاء الفئة الأكثر غلبة في المجتمع وهم المراهقون و الشباب محاولا أن يُنشئ خطابه وفق ما يتوافق مع أفكار هذه الفئة بصرف النظر عن القيمة، ويستخدم لغة هذه الفئة لجذبهم إلى منتجه، وهذا انعكاس حقيقي لتبادل السلطات بالانتقال من سلطة الصانع الاصطلاحي، إلى سلطة صانع الموقف التواصلي سواء للمتكلم أو المتلقي.
وقد أثرت سلطة الموقف التواصلي للمتكلم أو المتلقي في إعادة النظر في كتابة الأعمال التاريخية باللغة العامية لتصل إلى أكبر عدد من الجمهور،لكون العامية هي لغة المتلقي.
وأصبحت مسألة كتابة العمل التاريخي المرئي باللغة العامية بدلا من الفصحى من القضايا الجدلية التي أثيرت في فترة قريبة، بعد ظهور مسلسل «الحشاشين» باللهجة المصريّة.
كما أن مصادر نشأة لغة المتكلم هي لغة مكتسبة من مواقف تواصلية محكيّة تبدأ بالحوارات المنزلية التي تميل إلى لغة المعيشة الصادرة وفق ممثلات مواقف تواصلية متعددة، إضافة إلى برامج التسلية في التلفاز، والأصدقاء ،ثم يأتي الشارع كمصدر لا يستهان به في إضافة خبرات كلامية لمواقف التواصل اللغوية ،كل هذه المصادر الُمشكّلة للمواقف التواصلية للمتكلمين تتحول تدريجيا إلى نظام لغوي جديد موازٍ للنظام الأصلي ومنافس له، وقد يكون في أشد تأثيراته مغيّبا له.
لقد استطاعت ثورة مواقع التواصل الاجتماعي أن تخلق لكل مشارك فيها محتواه الخاص مع ضمان الحدود الآمنة لحريته الشخصية الفكرية و اللغوية وغياب رقابة المحاسبة، وهي ضمانات تتشارك فيها كل الفئات المنتمية لذات الوسيلة وحركة التفاعل الجمعي، وهذه المشاركة هي التي خلقت قوة سلطة الموقف التواصلي للغة هذه الفئة، التي أصبح الخطاب الثقافي يركض خلفها لجذب جمهورها، وهذا الركض هو الذي شكل قيمة صاحب المحتوى التافه، وهي قيمة بدورها عززت لغته المحكيّة بل وحولتها إلى علامة تسويقية.
ولعل أفضل وصف لهذه المسألة هو قول آلان دونو في كتابه «نظام التفاهة» «ماهو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرف على شخص تافه آخر،معا يدعم التافهين بعضهم بعض، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار»-كتاب نظام التفاهة-
هل الغاية تبرر الوسيلة؟ هل غاية الخطاب الثقافي التي تسعى إلى ترسيخ القيم الثقافية داخل المراهقين والشباب، تمنحه حق التخلي عن اللغة الراقية لمصلحة اللغة المحكية لجذب الفئة المستهدفة؟ أو على الخطاب الثقافي أن يبحث عن حلول تحافظ على لغته وأفكاره لجذب هذه الفئة بعيدا عن التضحية بالنظام اللغوي الأصيل؟؛أي لا يتنازل عن أصول بل يتفاوض عبر بدائل.

