: آخر تحديث

المناعة السعودية وسقوط الأقنعة

1
0
1

لم يكن ما حدث على منصة «إكس» مجرد تحديث تقني، بل كان لحظة مفصلية أسقطت أقنعة كثيرة كانت تختبئ خلف هوية سعودية مزيفة. فما إن ظهرت المواقع الجغرافية للحسابات، حتى تبيّن أن كثيراً من المحتوى الذي كان يُقدَّم على أنه جزء من «التفاعل السعودي» لم يكن كذلك، بل كان إنتاجاً خارجياً منظماً ومدعوماً يتخفّى عبر حسابات وهمية تبث مزيجاً فوضوياً وسيالاً من المحتوى السياسي الموجّه، والتحريض العنفي، والترويج لخطابات مرتبطة بالتطرف والإرهاب، عدا المحتوى اللاأخلاقي في محاولة لخلق بيئة رقمية مضطربة تتعارض مع قيم المجتمع وتشوه صورته أمام نفسه قبل العالم.

وإذا كانت هذه الواقعة قد كشفت عن هوية تلك الحسابات اليوم، والعواصم التي تنطلق منها، فإن اللحظة المفصلية التي يمكن التأريخ لها لشيوع هذا النوع من الاستهداف بدأت مع ما سمي «الربيع العربي»، حين حاولت مشاريع تقويضية خارجية توظيف الفضاء الرقمي لإعادة تشكيل الخطاب العام السعودي بشكل أساسي، وأيضاً الدول المستقرة الخليجية والعربية.

ثم تضاعف هذا الاستهداف مع إطلاق «رؤية 2030»، ومع النجاح الاقتصادي والاجتماعي اللافت الذي حققته المملكة، ومع ما سجّلته من انتصارات كبرى في التصدي للتطرف ومكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه، مما جعلها هدفاً أكبر لكل من يخشى صعودها أو يَضيق ذرعاً باستقرارها.

هذه اللحظة ليست مفصولة عن السياق العالمي الأوسع. فالدعاية البروباغندا أصبحت اليوم صناعة متقدمة، لا تعتمد على الرسالة المباشرة، بل على تشويه البيئة الإعلامية نفسها. تاريخياً، استخدمت الدول الإذاعات لتحطيم المعنويات خلال الحربين العالميتين. وفي الحرب الباردة، استخدمت القوى الكبرى الإذاعات الموجهة لبث خطاب يبدو محلياً رغم أنه خارجي تماماً. ومع الفضائيات، تطورت الدعاية إلى برامج وحوارات وصناعة صور رمزية، لكنها بقيت مرئية.

ومع شبكات التواصل، سقط الحاجز النفسي بين الداخل والخارج. لم يعد المتلقي يعرف من أين يأتيه المحتوى، ولفهم هذا المشهد، تتيح نظريات الاتصال السياسي إطاراً دقيقاً. مثلاً «نظرية وضع الأجندة» لماكسويل ماكومبس ودونالد شو، التي تشرح كيف تحدد الوسائل الإعلامية المواضيع التي يجب أن يهتم بها الجمهور بناءً على التوجيه، ويزداد هذا في البيئات، حيث تشتغل الحسابات الوهمية على ضخ محتوى سياسي أو عنفي أو لا أخلاقي بكمٍّ ضخمٍ وطرائق منظَّمة ولغة جاذبة لفرض «أجندة مصطنعة».

إليزابيث نويمان، العالمة الألمانية، هي صاحبة نظرية «دوامة الصمت» التي تفسر امتناع الأفراد عن مواجهة محتوى لمجرد أنهم يعتقدون أنه شائع ومنتشر وبالتالي فهو حقيقي. لذلك نفهم وفقاً لذلك أن المحتويات التي تستهدف الجمهور السعودي تبدو عند البعض، بسبب الإغراق، كأنها رأي سائد، فيميل البعض إلى الصمت.

الخوارزميات أصحبت اليوم المرشحات الأكثر تأثيراً لمرور المحتوى إلى المتلقي ودفعه إلى الواجهة. وإذا أخذنا «نظرية التنشئة الثقافية» لجورج جيربنر، ندرك بوضوح تحول التكرار والإغراق إلى محرِّض على بناء تصورات زائفة مفصولة عن الواقع بحيث يعتقد المتلقي أن هذا المحتوى شديد الذيوع يمثل المجتمع.

وبحكم علاقتي الطويلة بتحليل المحتوى فإن هذه الأدوات كانت حاضرة بقوة في خطاب الإسلام السياسي، والجماعات المتطرفة، وصولاً إلى التنظيمات الإرهابية. فمنذ أشرطة «القاعدة» الأولى، ثم مع استعراضات «داعش» السينمائية، فهمت التنظيمات أن المعركة الحقيقية هي معركة الصورة لا السلاح. اليوم، تستخدم بعض الحملات السياسية الأدوات ذاتها: اللعب على الغرائز، والعبث بسلم القيم لدى الشباب، أو تقديم محتوى صادم أخلاقياً لضرب سلم القيم لدى الشباب في محاولة لتبيئة خطاب العنف وشرعنة الإرهاب أو محتوى التحريض الذي يستهدف المساس بفضيلة الاستقرار التي يعدها السعوديون جزءاً من هويتهم الوجودية.

والحق يقال؛ لحظة الانكشاف الأخيرة لم تكن مفاجئة بقدر ما أنها عززت ذلك الحدس الوطني والقناعة الراسخة منذ سنوات بأن هذا البلد مستهدَف، وليس هذا من قِبل ادِّعاء الكمال الأخلاقي، إذ لم يدَّعِ السعوديون المثالية أبداً، لكنهم كانوا على الدوام يؤكدون أن «هذا المحتوى الذي يستخدم أسماءنا وملامحنا لا يشبهنا أو يمثِّل واقعنا أو يعكس حياتنا اليومية».

لحظة الطمأنينة هذه، والفخر بما نحن عليه من وحدة وطنية ونجاحات غير مسبوقة، ينبغي ألا تجعلنا نغفل عن برامج تعزيز هذه المناعة وقراءتها وفق أطر منهجية لتحليل المحتوى بلغة الأرقام والبيانات، كما أننا يجب أن نحذر من السقوط في فخ الشوفينية أو التحيّز أو ردّات الفعل، بل يجب أن تدفعنا إلى الاهتمام بإيصال قيمنا ووعينا وتقدمنا وانفتاحنا على العالم بخطاب يعكس ما نحن عليه اليوم.

سقوط الأقنعة يجب أن يُقرأ ضمن سياق تشكُّل المناعة السعودية المجتمعية، وأنه لم يكن وليد الصدفة أو يُخلق فجأة، بل تطوَّر ببرامج استباقية وتضحيات وأثمان ويقظة كبيرتين من كل أجهزة الدولة التي أدركت خطورة المعركة مع التطرف والإرهاب والحملات المغرضة لاستهداف استقرار البلاد، وهو ما أسهم في بناء ثقة استثنائية بين المجتمع وقيادته.

لا يملك أحد التعريف بالسعوديين اليوم قدر أنفسهم؛ بكل هذه المنجزات والتحول العظيم الذي منحته «الرؤية» لنا، هذه المناعة وذلك الحدس والإيمان بالوطن والفخر بقيادته أسقط الأقنعة قبل سقوطها بتحديثات تقنية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد