نَقْصُ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ... هُوَ غَيرُ الكَمَالِ المُطْلَقِ.
وَنُبْحِرُ فِي فَيْءِ بَيْتٍ مِنْ رَوَائِعِ الْمُتَنَبِّي، وهُوَ قَولُهُ:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
وَمِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ هَذَا التَّمَامِ، تَأْتِي التَّوجِيهَاتُ النَّبَوِيَّةُ الكَرِيمَةُ، تَأْكِيداً لِتَأْصِيلِ سَجَايَا المَحَاسِنِ، وَتَجْذِيراً عَمِيقاً لِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، التِي تُصَدِّقُ التَّمَامَ وَتُثَبِّتُهُ وَتُؤَكِّدُه.
عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ ﷺ: «مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟!»
قَالَ سَعْدٌ: أَفِي الوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ ﷺ: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ». (رَوَاهُ ابنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ أحمد شاكر، قائلاً: «إسْنَادُهُ صَحيحٌ»).
يُثْبِتُ هَذَا الحَدِيثُ أَنَّ الإِسْرَافَ يَكُونُ حَتَّى عَلَى النَّهْرِ الْجَارِي، وَفِي التَّنْزِيلِ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ}.
هَلْ حَفْنةُ ماءٍ من نَهْرٍ جَارٍ إِسْرَافٌ؟ وَهَلْ يُغَيِّرُ عَدَمُ الإِسْرَافِ شَيْئًا مِنْ وَاقِعِ جَرَيَانِ النَّهْرِ؟!
إِنَّ مَاءَ النَّهْرِ يَجْرِي جَرَيَاناً دَائِماً، سَوَاءٌ اقْتَصَدْتَ فِي اسْتِعْمَالِهِ أَمْ أَسْرَفْتَ!
وَجَوَابُهُ: بِأَنَّهُ يُعَلِّمُكَ كَيْفَ تُحَوِّلُ السُّلُوْكَ الإِيْجَابِيَّ إِلَى خُلُقٍ مُتَأَصِّلٍ فِيكَ، تُمَارِسُهُ بِشَكْلٍ دَائِمٍ، لِقَنَاعَتِكَ بِغَايَتِهِ، وَإِيمَانِكَ بِالسَّبَبِ الذِي شُرِّعَ مِنْ أَجْلِهِ، بَعِيداً عَنْ المُتَغَيِّرَاتِ الطَّارِئَةِ.
الأَصْلُ، هُوَ الاقْتِصَادُ وَعَدَمُ الإِسْرَافِ، وَلَيْسَ جَرْيَانُ النَّهْرِ...
إِنَّ غَايَةَ التَّوْجِيهِ فِي هَذِهِ الحَالَةِ تَكْمُنُ فِي تَحْوِيلِ الاقْتِصَادِ، وَنَبْذِ التَّبْذِيرِ وَالإِسْرَافِ، إِلَى عَادَةٍ ثَابِتَةٍ فِي سُلُوكِكَ، وَطَبْعٍ أَصْلِيٍّ مِنْ طِبَاعِكَ.
وَهذَا مَا جَاءَ عن أَنَسٍ، رَضيَ اللَّهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
رَواهُ أَحمَدُ في «المُسنَد»، والبُخَاري في «الأَدب المُفرد»، وصحَّحه الأَلْبَانِي، فِي (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، ج1، حديث 9 ، قائلاً: «هَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ على شَرْطِ مُسلم».
(فَسِيلَة): نَبْتَةٌ صَغِيرَةٌ؛ وهِيَ جُزْءٌ مِنْ النَّبَاتِ يُفْصَل عَنْهُ وَيُغْرَس. (المُعجم الوَسيط).
إِنَّ الغَرْسَ، وَالبَذْرَ، وَالزَّرْعَ، وَالبِنَاءَ، وَالتَّعْمِيرَ، غَايَاتٌ وَأَهْدَافٌ أَسَاسِيَّةٌ، فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، حَتَّى وإِنْ كانَ ذلكَ قَبْلَ دُقَيِّقَاتٍ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؛ امْتِدَاداً لِمَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ، مِنْ عِمَارَةِ الأَرْضِ، في قَوْلِهِ سُبحَانَهُ: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.
كُلُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ التَّمَامِ، الذِي تَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ العَلِيَّةُ.
عِنْدَمَا يَأْمُرُكَ بِغَرْسِ فَسِيلَةٍ، وَقَدْ قَامَتِ السَّاعَةُ، فَإِنَّهُ مُجَدَّداً يَغْرِسُ فِيْكَ قِيمَةَ فِعْلِ الخَيْرِ، في الأَوْقَاتِ كُلِّهَا.
لَمْ يَقْصِدِ المَتْنَبِي فِي بَيْتِهِ بِـ«التَّمَامِ»؛ الكَمَالَ المُطْلَقَ؛ فَإِنَّ التَّمَامَ الذِي يَعْنِيهِ هُوَ المَرْتَبَةُ التِي يُمْكِنُ لِلشَّخْصِ بُلُوْغُهَا، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي البَيْتِ ذَاتِهِ: «القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ»، وَتَمَامُهُ هُنَا هُوَ ضِدُّ النَّقْصِ، الذِي اعْتَبَرَهُ أَعْيَبَ العُيُوبِ. ولذلك قِيلَ فِي أَحَدِ شُرُوحِ الدِّيوَانِ، تَعْلِيْقاً عَلَى البَيْتِ السَّابقِ:
«لَيْسَ عَيْبٌ أَقْبَحُ مِنَ الْكَسَلِ»، وذَلِكَ عِنْدَمَا يُمْكِنُ للمَرْءِ أن يَصِلَ إِلَى دَرَجَةٍ مَا، وَيَمْنَعهُ «الكَسَلُ» مِنْهَا.
إِنَّهُ يُعَظِّمُ عَيْبَ القَادِرِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ لَا يَفْعَلُهُ، بِمَا يُظْهِرُ أَنَّ «تَمَامَ» الْمَتْنَبِيّ سُمِّيَ تَمَاماً لِكَوْنِهِ ضِدَّ النَّقْصِ، لَا لِأَنَّهُ كَمَالٌ مُطْلَقٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.