: آخر تحديث

الإبداع ومعنى الحياة

11
9
8

منيرة العصيمي

في غياب اللاوعي، يتجلى الإبداع وتنطلق روعة الفكر، بينما بحضوره قد يكتسب الفن صبغة مصطنعة خالية من الروح الساحرة والفكرة الخلاقة التي تجعل الإنسان يدهش في كل مرة يتأملها. لهذا، عاشت معظم الأعمال الكلاسيكية واستمر عشاقها في التغني بذكرها في كل لقاء أو معرض فني أو أدبي. من تلك كانت أعمال فيكتور هوجو، مقطوعات موزارت، أعمال الأخوين لوميير، ومسرحيات نجيب الريحاني حيث خُلدت وتداولتها الأجيال، وعززت مفهوم الفن والجمال لديهم، وغذت دهشتهم وأشبعت دوافعهم الداخلية.

هذا الإبداع، حين ينبثق من مكان لا يهتم إلا بالفن ذاته، يكون مُدهشًا بالضرورة، وهذا ما أشار إليه فيكتور فرانكل في كتابه « الإنسان يبحث عن المعنى» حين تحدث عن الحب والضمير والفن، واعتبرها خارجة عن دائرة غيرالمدرك أو غير المنطقي، ومتجهة نحو الحدس الإنساني مباشرة. فرانكل الذي كان يسعى لإثبات أهمية العلاج بالمعنى، وإن اختلف معه الكثيرون، إلا أن المعنى الذي يتجلى من الإبداع هو ما يضيف القيمة إلى الحياة.

وإن تأملنا سنجد بعض القراء أو الكتاب أو حتى المبدعين يبنون علاقة خاصة مع شكل إبداعي معين؛ يقضون الساعات الطويلة في مكتبتهم بين الكتب

وشعاع الشمس، أو ضوء القمر، وكوب مشروبهم المفضل بيدهم. آخرون يحيطون أنفسهم بقائمة المراجع وأوراق البحوث، كما لو أن الحياة اختزلت وجودها في مشروعهم المعرفي. كذلك الكاتب الذي يذيع خبر كتابه الأول، والفنان الذي يدعو المهتمين بالفن لحضور معرضه الثالث، والقاص الذي يقرأ قصته في الأمسية الثقافية، والمغني الذي يتماهى مع آلته الموسيقية؛ جميعهم يعيشون تجربة أصيلة تنبع من حقيقة الجمال في تلك اللحظة الإبداعية. وهكذا عبر كريستوفر باوليني عندما قال: «الكتب أصدقائي، هي تجعلني أضحك وأبكي وتدفعني لأجد المعنى في الحياة».

إننا حين نتأمل الفن، ندرك أنه يحمل معنى غير قابل للتحديد بدقة، كصورة سريالية يفسرها كل من يقف أمامها بطريقته الخاصة. وفي بحثه عن المعنى رأى فرانكل أنّ الفن إلى جانب الحب والضمير، ينبثق من أعماق الحدس الإنساني، ويعكس ما يتجاوز الإنسان نحو معنى أسمى؛ إذ هو إدراك مباشر للحقيقة، دون وساطة العقل. فالحدس يلتقي بالجمال في الفن، ليكشف المعنى الكامل وراءه.

لكن، هل كان فرانكل محقًا حين اعتبر منابع الفن غير عقلانية، أو بمعنى آخر، حدسية؟ يبقى هذا موضوعًا للنقاش، إذ لا توجد إجابة واحدة متفق عليها، وهو ما يثبت أهمية وجود المعنى في حياتنا.

فرانكل أيضًا أشار إلى أن «إرادة المعنى أكثر من مجرد أمنيات لبعض المثاليين». وكما أقول دائمًا، لاشيء له معنى إلا المعنى الذي نعطيه له. ومن المهم للرفاه النفسي أن يوازن الإنسان بين عمله وهواياته ويتلمس مواطن الإبداع بداخله.

وأخيرًا، المعنى هو أن نجد لحياتنا معنى؛ فالحياة تسكن عمق شعورنا بكل ما يحيط بنا في اللحظات العابرة، الأحاديث الدافئة، جلسات ممتعة، أو فكرة باغتتنا فتحت لنا باب التأمل، كل ذلك يشكل إضافة حلوة إلى كنوزنا الصغيرة، إلى ما نسميه حظنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد