أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية، ورسم سياق تعديلات دستورية جدية. لكن السلطة الناشئة في ظلِّ هيمنة النظام الأسدي شرّعت قانون عفو عن جرائم الحرب؛ ما أرسى الأسس الكارثية للمسار الذي عاشه لبنان منذ صدوره مطلع تسعينات القرن الماضي. ساد نظام حصانات ومحاكم استثنائية وتمترست المنظومة السياسية خلف نظام الإفلات من العقاب!
انتقل زعماء الحرب الأهلية من المتاريس إلى مقاعد الحكم. تحاصصوا الوزارات والمؤسسات مع ميليشيات المال. لم تحصل محاسبة ولم يقر أي طرفٍ بما ارتكبه من خطايا رغم تجاوز أعداد الضحايا 150 ألفاً. تم طمس فظائع الحرب التي أحدثت تغييراً ديموغرافياً قسرياً، وهجّرت نحو مليون مواطن، وخارج المواقف الصوتية استمر مجهولاً إلى يومنا مصير نحو 17 ألف مخطوف. توازياً، أبقى رموز تلك المرحلة خطوط التماس محفورة في وجدان اللبنانيين من خلال ابتداع كل فئة مناسبة تتاجر بها بدماء من تسببت في هدر دمهم والادعاء بصوابية المشروع الذي قتلوا من أجله.
جرى تفصيل السياسة على مقاس مصالح منظومة التسلط. وُضِعت قوانين انتخابية متصادمة مع الدستور زوّرت إرادة الناخبين فتهمشت السياسة ودور البرلمان. وخدمت السياسات المالية مصالح نظام المحاصصة. نهج الاستدانة لم يفضِ إلى تكبير الاقتصاد، وبعض إيجابيات إعادة الإعمار: مطار وشبكة جسور وطرق.
طيلة 3 عقود ونيّف حصل تساكن بين السلاح اللاشرعي والكارتل السياسي المصرفي فأوصل هذا التحالف البلد إلى الجحيم. عُلِّق الدستور وانعدمت السياسة واستتبع القضاء وساد كسل فكري. تعاموا بالجملة عن استتباع البلد محور الممانعة، ومع مناخ الخروج على الدستور استبيح كل شيء: اغتيل الحريري وأُخذ البلد إلى حرب يوليو (تموز) 2006 المدمرة، وفُرض الشغور في الرئاسة حتى استكمل «حزب الله» انقلابه فترأس ميشال عون ما خنق لبنان وعزله عن محيطه العربي وأصدقائه فتسارع مسار الانهيار.
بين غمضة عينٍ وانتباهتها، استفاق نحو مليوني مُودِع على الكارثة. لأشهر لم يصدقوا أن جني الأعمار قد سُرق، وتبدلت أحوال الناس وانتقلوا من اليسر إلى العسر. لم يصدق المواطن أن المصرف لم يعد مكاناً آمناً لأمواله، وأرعبه أن المفترض بهم حماة حقوقه شركاء بهذه المنهبة. وعلناً، قرر اجتماع رفيع ترأسه الرئيس السابق ميشال عون حماية الناهبين بفرض رفع يد القضاء عن دعاوى أصحاب الحقوق. وتوازياً، أسقط البرلمان خطة لازارد المحاولة اليتيمة لتحديد المسؤوليات وسبل استعادة المنهوب!
طيلة 6 سنوات عمَّت الفاقة واتسع العوز، وارتبطت القدرة على البقاء بتعاميم غير قانونية اقتطعت كمتوسط 75 في المائة من الودائع مع تسعير الدولار بـ3900 ليرة ثم 8000 ليرة ومنذ سنوات بـ15000 بينما السعر الحقيقي 89500 ليرة. وأُسدل الستار على «التدقيق الجنائي» بوضعية مصرف لبنان، لتنفجر ارتكابات الكارتل المصرفي أمام القضاء الدولي؛ ما أفشل مؤقتاً المخطط المافياوي تشريع عفوٍ عن الجرائم المالية!
عجّلت كارثة حرب الإسناد بولادة عهد لبناني جديد، فأعاد خطاب القسم الأمل وشجع البيان الوزاري على التفاؤل. وبالتأكيد لا أولوية تفوق حصر السلاح بيد الدولة وبسط السيادة بواسطة القوى الذاتية. والأكيد أن الآليات التي وضعها الجيش لجمع السلاح لن تعيقها عنجهية «حزب الله» الذي يعيش حالة إنكار وانعدام توازن. لكن هذا الجانب المهم غير كافٍ لاستعادة الدولة المهابة الجانب العادلة والقوية.
تعهد نواف سلام إعادة الإعمار، وتضمن البيان الوزاري تعهدات أخرى: استكمال «التدقيق الجنائي» لكشف المستور أمام القضاء، والعدالة لضحايا تفجير المرفأ ولأصحاب الحقوق. وأعلن سلام أن القوانين الانتخابية منذ عام 1990 متصادمة مع الدستور. وتعهد بسياسة تعكس الهجرة من الخارج إلى الداخل، وهو يعلم بأن سنوات الانهيار بعد عام 2019 هجَّرت نحو 500 ألف جُلّهم كفاءات شابة. وبعد 9 أشهر على ولادة الحكومة لم توضع هذه التعهدات في التنفيذ. وقوى المرحلة السابقة تقاتل للإبقاء على قانون انتخاب يحرم المغتربين من حقهم الدستوري في الاقتراع لـ128 نائباً في إصرارٍ فج على تكريس التزوير. وبينما يتعمق «الهيركات» على الودائع لتدفيع المودعين ثمن اللصوصية، فإن ما يطرح بشأن «الانتظام المالي» يمنع المحاسبة ويكرّس عملياً العفو عن الجرائم المالية، تتمته السطو على احتياط الذهب.
مشهد سريالي تصدر بعض نظام المحاصصة في موضوع جمع السلاح، وهم شركاء الكارتل المصرفي وحماته، وأولويتهم منع المحاسبة، وإن أدى ذلك إلى فقدان الاستقرار الاجتماعي ومنع قيام دولة العدالة والأمان... بسط السيادة أولوية، لكن الوجه الآخر لهذه الميدالية سيادة مالية ومحاسبة؛ لذا مستحيل التعافي مع بقاء البلد رهينة من أوصله إلى الجحيم. إنه التوقيت المناسب لبلورة قطب شعبي، يعبّر عن النسيج الحقيقي للبنان، فينهي الخلل في ميزان القوى الوطني، يمتص الخصوصيات المناطقية والطائفية ويبلور البديل السياسي، فلا يخسر لبنان فرصة بلوغ المكانة التي تليق بشعبه.