لم تكن الأجواء لحظة إعلان الاتفاق بين «حماس» وإسرائيل متفائلة؛ إنهاك سياسي دولي وإحباط إقليمي بسبب وعورة طريق إطفاء هذه الحرب التي طال أمدها وتعددت أوراقها وتعقّدت مفاوضاتها.
لقد تجاوز الذي جرى وصف المعركة بأنها أقرب إلى الملاحم التاريخية الطاحنة التي عاشتْها البشرية عبر العصور. نعم تنفّس العالم الصعداء بهذا الإعلان، ويترقّب اكتمال مراحل تطبيقه المعلنة والموافق عليها، ولكن هذا لا يعني اندمال الجراح أو نهاية الحرب الرمزية على الأقل، وربما استمرار المناوشات اليومية، لكن مع ذلك يظلّ هذا الاتفاق الذي طال أمده يفتح كوّة في جدار الأزمة، ويبطّئ من إيقاع الصراع بين إسرائيل ومحيطها.
عبر تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي لم تُستلهم الدروس بعد نهاية الحروب، بل تُصحب عادةً بانتصاراتٍ لغوية، وتفسيراتٍ متعددة للانكسارات والانهيارات. وما كانت هذه الحرب بدعةً في كتاب الحروب. لنكن واقعيين وعقلانيين، إن إبرام اتفاق لا يعني نهاية «العقيدة العسكرية» بين الطرفين، والتي تجعل التحديات أكبر وأعقد مما نتصوّر.
لا بد من كتابة الدروس فوراً بعد هذه المأساة، وذلك بغية تغيير مسار الأفكار التي أدّت بالفلسطينيين إلى التهلكة بسبب سوء تقدير سياسي وعسكري.
ما قدّر المحاربون مدى قوّة إسرائيل وتطوّرها. فوجئ الطرفان الفلسطيني واللبناني بالقوّة الاستخبارية المرعبة لإسرائيل. من «طوفان الأقصى» إلى «حرب الإسناد» كان التوقّع - كما ذكر كل قادة «حزب الله» - أن يكون الرد الإسرائيلي تقليدياً على ما عُرفت به إسرائيل عبر التجارب القديمة. اغتيالات لكل قادة «حزب الله» و«حماس» الأساسيين، وكادت تقضي على من تبقّى منهم. سوء التقدير هذا من قبل البعض أعطى الإسرائيليين فرصة تحقيق نفوذٍ كانت تحلم به، ولكن الفرصة أُعطيت لها من ألدّ أعدائها، ولولا ضربة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لما جرؤت إسرائيل على تبرير هذا العنف دولياً.
أحسب أن هذا الاتفاق المبرم يدعونا إلى التفكير بمستويين اثنين؛ الأوّل: تحمّل الحركات المسؤولة هذه الأزمة والكارثة الإنسانية المصاحبة وضمان عدم تكرارها، وهذا لا يمكن أن يتأتّى إلا بتحوّل الحركات فكرياً، وتذويبها في الدولة والدخول بمؤسسات الدولة، هذا إن استطاعت، وأشكّ في قدرتها على ذلك. المستوى الثاني: ضرورة استثمار الاتفاق من أجل بناء مشروع محلّي صرف في لبنان وفلسطين. لقد بذلت السعودية عبر جهودها الدبلوماسية كل ما بوسعها من أجل اعتراف عدد كبير من دول العالم بدولة فلسطين، وهذا نجاح على الفلسطينيين بناء مشروعهم عليه. ثمة تحديات داخلية اقتصادية وإنسانية وسياسية، من دون وحدةٍ بين المكونات السياسية لا يمكن أن يصنع المشروع المنشود من أجل استقرار الناس، وعودتهم للحياة الطبيعية الآمنة العادلة.
الرحلة لعالم ما بعد الاتفاق محفوفة بالمخاطر؛ لا يكفي الاحتفال بالاتفاق. ثمة واقع سوف يدركه المسؤولون بعد نهاية تلاوة الخطابات، إنه عالم ما بعد الحرب.
إن الأسس التي يجب الانطلاق منها بعد الاتفاق لا بد أن تكون مبنيّة على النظرية السياسية لا على الخطبة الآيديولوجية. الأولوية لمصلحة الإنسان الفلسطيني لا لهذه الحركة أو لذلك الحزب. هذه هي الأولوية الضرورية التي يجب أن تصحب كل الأفكار السياسية التي ستُتداول بعد الاتفاق.
بعض اللبنانيين بدأوا بمطالبة الدولة بالدخول بمثل هذه النهايات السعيدة؛ وقّع الفلسطينيون الاتفاق، وسوريا تتحاور مع إسرائيل، وهناك أفكار عديدة تُتداول، فلماذا لا يدخل لبنان في هذا الجوّ الإقليمي السلمي؟!
من المهم قيام لبنان بحوار لإنهاء المآسي التي سببتها الحروب الأبدية مع إسرائيل أسوةً ببقية الدول التي صنعت صيغها من أجل إنهاء الحروب والمآسي، والبحث في سبل لمنع تكرار المجازر والحروب والإبادات. الواقعية السياسية اللبنانية يجب أن تقود إلى أن إسرائيل واقعة جغرافية محيطة بلبنان، وكما أُبرمت اتفاقيات الترسيم يمكن للبنانيين درس اتفاقيات تكفل إنهاء الأزمات التي يتسبب فيها البعض، والضحية الإنسان واقتصاده وبنيته التحتية.
الخلاصة أن الاتفاق سينهي الأزمة الإنسانية الفلسطينية، وهذا مهم، ولكن لا بد من استثماره لبدء مشروعٍ سياسي وتنموي فلسطيني حقيقي، ووضع خطة طويلة الأمد. التحديات الداخلية هي الأهم. إنها مرحلة للتفكير في مرحلة ما بعد الحرب: إنهاء الانقسام الداخلي، وتوحيد الدولة، وإعادة الإعمار، والاندماج مع سياسات وأفكار ورؤى التنمية التي تقودها الدول التنموية الصاعدة.