: آخر تحديث

غرفة الشاي

3
2
3

ماجد قاروب

التراث ليس مجرد جدران حجرية أو أبنية قديمة، بل هو ذاكرة حيّة للأمم، تنبض بالقصص والرموز التي صنعت وجدانها وتشكل هويتها العميقة.

في قلب روما يقف مقهى «أنتيكو كافيه غريكو» منذ عام 1760 شاهدًا على قرون من الحياة الثقافية، حيث جلس تحت سقفه شعراء ومفكرون وفنانون لم يكن هذا المقهى المعروف بغرفة الشاي (Tea Room) مكانًا لشرب القهوة فحسب، بل فضاءً لتلاقي الأفكار وصناعة الإبداع، حتى صار جزءًا من هوية روما الثقافية وعندما تعرض لخطر الإخلاء بحكم قضائي لعدم قدرة المقهى على سداد الإيجار العالي، لم تنظر إليه وزارة الثقافة الإيطالية كعقار تجاري يمكن الاستغناء عنه، بل كمعلم تراثي لا يقدر بثمن لتمنحه حماية قانونية كاملة، ليس فقط لجدرانه ومقتنياته، بل أيضاً لاسم المقهى وتاريخه، ولحقوق القائمين عليه الذين حفظوا هويته على مدى عقود، لقد أثبتت إيطاليا بذلك أن القانون يمكن أن يكون حصناً للذاكرة ودرعاً للثقافة وضمانة للعدالة، وأن صون التراث لا ينفصل عن حماية من يحافظون عليه.

هذا النموذج يجد صداه في النهضة التاريخية والثقافية التي تقودها المملكة العربية السعودية بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث لم يعد الاهتمام بالتراث يقتصر على جوانبه العمرانية أو السياحية، بل يُنظر إليه باعتباره إرثاً حضارياً تُصان به الهوية، وتُصان معه حقوق الأفراد والمجتمع، فقد أطلق سمو ولي العهد مشروع تأهيل المساجد التاريخية الذي لا يقتصر على ترميم مئات الجوامع القديمة بل يتضمن منظومة قانونية وتشريعية تحمي هذه المساجد من العبث أو التغيير، لتبقى شاهدة على عمق الهوية الإسلامية والثقافية للمملكة لقرون طويلة منذ فجر الإسلام، وفي العُلا حيث تختلط الجغرافيا بالذاكرة تعمل المملكة على إعادة إحياء البيوت القديمة والمعالم الأثرية لتكون ملتقى عالمياً للتاريخ والإنسانية مع وضع ضمانات تنظيمية تحمي هذا التراث من الاستغلال التجاري الجائر وتكفل استمراره للأجيال القادمة، كما أن مشاريع جدة التاريخية وحي الطريف في الدرعية وغيرها من مشاريع الحفاظ على المعالم الأثرية والتاريخية تمثل التقاء القانون بالثقافة، حيث تُرمم المباني والأسواق القديمة مع حماية أسمائها ومسمياتها في السجلات الرسمية ليبقى التراث محفوظًا من أي اعتداء مادي أو معنوي.

إن حماية التراث ليست مسؤولية ثقافية وحضارية فحسب، بل واجب قانوني وأخلاقي، فالتراث ملك للجدران وللأشخاص الذين يحافظون عليه وللمجتمع الذي يستمد منه هويته.

حماية التراث جسر يربط الماضي بالحاضر ويحميه من الضياع لتبقى رسالة المملكة واضحة، فالتاريخ يصان والهوية تبقى، مع تعزيز الوعي لدى الأجيال بأهمية الإرث الحضاري والثقافي والتاريخي الذي يربطهم بماضٍ أصيل وهويّة لا تُنسى ممتدة لأكثر من ثلاثة قرون من التاريخ السعودي العريق نحتفي به مع ذكرى يوم التأسيس المجيدة.

التراث هوية وطنية وذكرى تاريخية لها أثر اقتصادي كبير بدعم السياحة وجذب الزوار للتعرف على الحضارة الإنسانية والتاريخ الإسلامي والدولة السعودية.

مهام كبيرة ومشكورة تقوم بها هيئة التراث بدعم ورعاية وزارة الثقافة تحتاج إلى الثناء والتقدير.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد