: آخر تحديث

ضباع على طاولة التفاوض!

7
7
6

عوض بن حاسوم الدرمكي

في 10 مايو من عام 1940 كانت بريطانيا ومعها أوروبا في وضع كارثي، فالجيوش النازية كانت قد أسقطت هولندا وبلجيكا بينما كانت فرنسا تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل السقوط والقوات البريطانية محاصرة في دونكيرك، في ذلك اليوم تم تعيين ونستون تشرشل رئيساً لوزراء بريطانيا، وتم عقد اجتماع طارئ للحكومة، وضغط بعض الوزراء، وعلى رأسهم لورد هاليفاكس، للتفاوض مع أدولف هتلر، للتوصل لسلام مؤقت، يقي بريطانيا المنهكة خطر السقوط هي الأخرى، لكن تشرشل رفض ذلك معتبراً أن أي تفاوض في موقف ضعف ستكون نتائجه كارثية وقال جملته الشهيرة: «لا يمكنك أن تفاوض إلى مدى أبعد من ذلك المدى الذي تصل إليه نيران مدفعيتك».

لن نجد أصدق من دروس التاريخ، التي تبين لنا ذاك الصراع الأزلي بين القوي والضعيف، وذهنية المتسلط، الذي يرى كل ما هو أمامه «دون رادع» حقاً له، ألم يصر العرش الإسباني القشتالي، بدعم البابوية، على تسمية وصوله لشواطئ الأمريكيتين «اكتشافاً» وليس «وصولاً» أو «بلوغاً» أو حتى «غزواً»، ففي الغزو هناك حد أدنى من الحقوق تمنح لأهالي البلد الذي تم غزوه، أما الاكتشاف فهو وصول لأرض غير معروفة لأحد من قبل ولا تثريب على المكتشف في «إزالة» كل ما ومن يعارضه في ذلك المكان المكتشف، وهو ما تم في مجازر لا تبقي و لا تذر!

عندما أسس الكنعانيون العرب مملكة قرطاج اللامعة والتي امتدت من ليبيا مروراً بتونس والجزائر والمغرب وشبه الجزيرة الايبيرية وجزر البليار وصقلية وكورسيكا وسردينيا حوالي عام 814 ق.م. كانت روما الناشئة تنمو بهدوء، وتعمل بهدوء على محاكاة صناعة السفن القرطاجية، وتبني قوتها الحربية لتوازي القوة الاقتصادية الكبيرة لقرطاج، وعمدت إلى إقامة علاقات ودية مع جارتها الكبيرة وتوقيع معاهدات سلام عديدة حتى اشتد عودها وبدأت سلسلة الحروب البونية بدعم المرتزقة الطليان للعبث في صقلية وحدثت معركة أغريجنتوم عام 262 ق.م، وانتصرت روما وباعت 25 ألف من سكان صقلية القرطاجيين عبيداً، ثم لم تكتفِ بذلك، بل أسهمت بتأجيج الثورات الداخلية في مملكة قرطاج، وضمت خلال الانشغال القرطاجي جزيرتي سردينيا وكورسيكا، وخلال ذلك كان كاتو الأكبر يختم خطاباته دوماً بمقولة «الدمار لقرطاج» وهو ما نجح الرومان فيه عام 146 ق.م، واقتحموا المدينة الجميلة وأقاموا المذابح الجماعية، التي لم ينجُ منها حتى الأطفال والنساء واستعبدوا من تبقى من السكان المقدر عددهم بمائتي ألف نسمة، ودمروا كل معالم المدينة، ورشوا الملح على الأرض لمنع زراعتها، والاستفادة منها مستقبلاً!الهنود الحُمر فقدوا معظم أراضيهم من خلال معاهدات جائرة مثل معاهدة Treaty of Fort Laramie عام 1868، وخلال مفاوضات غير متكافئة لعدم تكافؤ القوى وبشروط ظالمة، وفوق ذلك تم خرقها من قبل الأوروبيين البيض مراراً، وارتكبت مذابح وتصفيات عرقية وإجلاء قاتل ومُذِل كما حدث في رحلة الدموع Trail of Tears بإرغام قبائل الشيروكي والشوكتو والشيكاسو والكريك والسيمينول بقطع قرابة 8000 كم عبر تسع ولايات: ألاباما، أركنساس، جورجيا، إلينوي، كنتاكي، ميسوري، نورث كارولاينا، أوكلاهوما، تينيسي، لأماكن منعزلة ونائية للغاية، وتوفي في الرحلة عشرات الآلاف منهم!

بريطانيا بدورها أعلنت أستراليا أرضاً خالية Terra Nullius عام 1788 متجاهلة تماماً الآلاف المؤلفة من السكان الأصليين المسالمين، الذين صودرت أراضيهم بالكامل وتعرضوا لمذابح مرعبة، وكذلك فعلوا بنيوزيلندا بسلب كل شيء من سكانها من شعب الماوري، بعد أن خرقوا معاهدة الحماية، التي وقعوها معهم عام 1840، ولضعف الطرف المفاوِض ضمت ألمانيا النازية هنغاريا عام 1943، وضمت الصين التيبت عام 1950!

لا يمكن استرداد حق مسلوب بمفاوضات مع طرف مغتصب ويفوق الطرف الثاني قوة، ففيتنام لم تتحرر إلا بعد نضال طويل امتد من 1946حتى 1975، بعد أن قدمت ملايين الشهداء، لأن الأمريكان أفشلوا كل المفاوضات السلمية المبكرة، وبعد أن يأس الجزائريون من عقود طويلة من المفاوضات العبثية اختاروا طريق النضال، وقدموا أكثر من مليون شهيد قبل أن يطردوا الاستعمار الفرنسي، ورغم حضور غاندي السلمي إلا أنه لولا الثورات الداخلية المتتالية لما استقلت الهند من ربقة البريطانيين!

قد تكون خيّراً وتكره إيذاء الآخرين وترى أن الدنيا تتسع للجميع، لكن ذاك لا يكفي إن كان الطرف المقابل يرى خيريّتك ضعفاً، وأدبك هواناً، وسعيك للسلم جُبناً، وهو أمر فهمه فارس العرب عمرو بن براقة حين قال:

كَذَبتُم وَبَيتِ اللَهِ لا تَأخُذونَهامُراغَمَــةً.. ما دامَ لِلسَيفِ قائِمُفَلا صُلحَ حَتّى تُقدَعَ الخَيلُ بِالقَناوَتُضرَبَ بِالبيضِ الخِفافِ الجَماجِمُ


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد