مَن قال إنَّ تداول السلطة على الطريقة الغربية هو الحل السحري لمشكلاتنا في الشرق الأوسط؟ وهل التجارب التي اعتمدناها في العقود الأخيرة أفضت إلى نقلة نوعية في حياة شعوبنا؟ هذان السؤالان يختصران مأزقنا السياسي والاجتماعي الراهن، حيث يتأرجح خطابنا بين الإيمانِ بأنَّ الديمقراطية الغربية هي الوصفة النهائية، والتشكيكِ في جدواها داخل بيئاتنا المركَّبة.
الحقيقة أنَّ التجربة الغربية لم تولد فجأة، بل تدرّجت عبر قرون من الحروب الدينية، والإصلاحات الاقتصادية، والثورات الاجتماعية، حتى تبلورت في صيغ دستورية مستقرة. أما نحن، فقد استعرنا النموذج في إجراء شكلي، وأدخلناه بيئات لم تُنجِز بعدُ شروطه الأولية؛ من اقتصاد مُنتِج، ومجتمع مدني متماسك، ومؤسسات ضابطة.
في العراق مثلاً، أُجريت انتخابات دورية منذ 2005، لكنَّها لم تفتح الباب لتداول حقيقي للسلطة، بل رسّخت نظام المحاصصة والهيمنة الحزبية والطائفية، فصار البرلمان انعكاساً لتوازنات القوى المسلحة والمال السياسي أكثر منه ممثلاً لإرادة الناخبين. وفي لبنان، وُضع نظام يقوم على تقاسم الطوائف السلطة، فحافظ على التعددية الشكلية، لكنه عطّل فاعلية الدولة وأغرقها في أزمات متكررة... وحتى تركيا، التي تقدم نفسها نموذجاً ناجحاً، لم تنجُ من الميل إلى تركيز السلطة بيد زعامة وحزب مهيمن رغم انتظام الاقتراع.
ما تحقق إذن لا يمكن وصفه بالتحول النوعي. صحيح أن الوعي الشعبي بمفاهيم الحقوق والتمثيل توسّع، وأن شعارات المساءلة والمحاسبة دخلت القاموس العام، لكن النتيجة العملية غالباً كانت مزيداً من الانقسامات والشلل، والسبب في رأيي أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق انتخاب، بل منظومة متكاملة لا تقوم إلا على قاعدة اقتصادية واجتماعية وتعليمية وتربوية متينة، فحين يسيطر الفقر والبطالة والتبعية الاقتصادية، يصبح الناخب أسيراً للمال السياسي والطائفة والزعامة التقليدية، وحين تغيب العدالة الاجتماعية، تتحول الانتخابات إلى ساحة لتوزيع الغنائم لا لبناء مؤسسات.
وفي المقابل، نجد أن بعض النماذج في المنطقة، رغم بُعدها عن المعنى الغربي للديمقراطية، حققت استقراراً وتنمية؛ دول الخليج العربية مثال واضح: شرعيتها السياسية مستندة إلى البنية التقليدية. وفرت الأمن والخدمات وفرص العمل، فأمّنت قدراً من الرضا الاجتماعي والاستقرار السياسي. المغرب أيضاً يمثل حالة وسطية، حيث يجمع بين نظام ملكي قوي وانتخابات دورية، بما سمح بقدر من التوازن بين الاستمرارية والإصلاح، وبين السلطة المركزية ومطالب المجتمع... هذه النماذج لا تعني أنها مثالية، لكنها تشير إلى أن نجاح الدولة في منطقتنا يرتبط بقدرتها على توفير التنمية والعدالة قبل أي حديث عن آليات تداول السلطة.
التجارب كلها تعلمنا أن الديمقراطية في منطقتنا تحتاج إلى ما هو أبعد من استنساخ النموذج الغربي، فهي لن تنجح ما لم تُبنَ على 3 ركائز أساسية؛ أولاً: اقتصاد مُنتِج يحرر المواطن من التبعية ويمنحه استقلالية القرار. ثانياً: ثقافة سياسية جديدة تجعل الولاء للدولة والقانون فوق الولاء للطائفة وغيرها من الولاءات. ثالثاً: مؤسسات دستورية قوية محصّنة ضد تغوّل السلطة التنفيذية وسطوة السلاح. من دون هذه الأسس، فستظل الانتخابات شكلاً فارغاً يعيد تدوير النخب نفسها.
من هنا، يبدو أن الطريق أمامنا ليست رفض الديمقراطية، ولا تَبنّيها حرفياً، بل إعادة إنتاجها بما يلائم ظروفنا. في العراق مثلاً، قد تكون الفيدرالية أو اللامركزية الموسعة مدخلاً لتوازن أفضل بين المكونات، شريطة ألا تتحول إلى محاصصة قاتلة. تجربة إقليم كردستان تقدم مثالاً على إمكانية بناء صيغة وسطية أعلى قبولاً، حيث أُجريت انتخاباتٌ دورية، وكُوّن برلمانٌ محلي، وأُسس نوعٌ من الشراكة الدستورية مع بغداد، رغم كل ما يعتريها من نواقص.
خلاصة القول إنَّ الديمقراطية ليست صناديق تقتحم المشهد من الخارج، بل ثقافة ومؤسسات واقتصاد وتربية ومجتمع مدني. وما لم ندرك أن الطريق طويلة، وأن بناء نموذج خاص بالشرق الأوسط يتطلب صبراً وإصلاحات متدرجة، فسنظل نتأرجح بين وضع قديم يتجدد بصيغ جديدة، وتجارب انتخابية لا تُنتج إلا خيبة الأمل. المطلوب اليوم هو صياغة ديمقراطية - اجتماعية - اقتصادية، تنبع من واقعنا وتستجيب لتحدياتنا، وتفتح الباب لتداول حقيقي لا يعيد إنتاج الماضي، بل يؤسس لمستقبل مختلف.