في قاعة الأمم المتحدة حيث تتزاحم الكلمات وتتعدد الأصوات، بدا خطاب المملكة مختلفًا، ليس في وضوحه وثبات مواقفه فقط، بل في كونه إشارة استشرافية لميلاد دور جديد يتجاوز الحاضر إلى المستقبل، لم يكن وزير الخارجية فيصل بن فرحان يصف واقع الأزمات بقدر ما كان يرسم ملامح عالمٍ مقبل، عالمٌ تبحث فيه الدول عن مرجعيات جديدة بعد أن تراجعت فاعلية المؤسسات التقليدية، وتزعزعت ثقة الشعوب في النظام الدولي القائم.
الاستشراف الأهم في هذا الخطاب أن المملكة لم تعد تكتفي بالحديث عن قضايا المنطقة أو الدفاع عن مصالحها، بل وضعت نفسها في موقع الفاعل القادر على صياغة معايير جديدة للشرعية والأمن والتنمية، حين أكد وزير الخارجية أن السلام لا يتحقق إلا بالعدل، وأن الشرعية تستمد من سيادة الشعوب لا من فرض القوة، وحين ربط بين الاستقرار والتنمية الشاملة للإنسان والبيئة، فإنه في الحقيقة قدم إطارًا بديلًا للنظام الدولي، إطارًا أكثر عدلاً واستدامة مما اعتدنا عليه.
إن خطاب الحقيقة يكشف أن المملكة تتحول تدريجيًا من قوة إقليمية محورية إلى مرجعية عالمية ناشئة، مرجعية تستند إلى رصيدها السياسي والاقتصادي والإنساني، وإلى قدرتها على الجمع بين المبادئ والمبادرات العملية، فحين تطرح مبادرات مثل: «السعودية الخضراء» و»المنظمة العالمية للمياه»، فإنها لا تقدم حلولًا محلية فحسب، بل تؤسس لرؤية كونية تعالج التحديات التي تهدد البشرية جمعاء، هذه ليست تفاصيل جانبية، بل إشارات إلى أن المملكة تعيد تعريف دورها: من دولة مؤثرة في محيطها، إلى شريك في هندسة مستقبل الكوكب.
الزمن المقبل سيشهد تحولات كبرى، من تراجع لأدوار بعض القوى التقليدية، وتنامٍ في الحاجة إلى أصوات صادقة ومرتكزة على قيم، وفي هذا السياق يصبح خطاب الحقيقة أكثر من مجرد موقف دبلوماسي؛ إنه إعلان مبكر أن المملكة تستعد لتكون أحد الأعمدة المرجعية في النظام الدولي المقبل، بفضل ثباتها في المواقف وجرأتها في طرح البدائل واستعدادها لتحمل المسؤولية الكونية.
إن العالم الذي يترنح بين أزمات السياسة والمناخ والاقتصاد يحتاج إلى بوصلة جديدة، وخطابَُ الحقيقة يقول ببساطة إن تلك البوصلة يمكن أن تُصنع في الرياض، حيث يلتقي الثبات بالاستشراف، والقيم بالقدرة، والسياسة بالإنسان.