محمد ناصر العطوان
في زاوية مزدحمة من مقهى راقٍ، تجلس «نخبة» المجتمع الحديث. ليسوا رجال أعمال، ولا علماء، ولا فنانين مبدعين... إنهم «أصحاب المنابر». اللقاء ليس مجرد استراحة، بل هو معرض متنقل للأنا، ومسابقة غير معلنة في فنون «الإيغو» والتباهي بالمحفوظات.
تلتقي هناك «الشخصيات»... فهناك سامي الكاتب، الذي لا يمكن مناقشة أي موضوع تحت الشمس من دون أن يهز رأسه بحكمة، ويقول «هذا يذكرني بمقالي الشهير الذي نشرته قبل عامين، ناقشت فيه هذه القضية بتعمق شديد... لقد تنبأت بكل ما يحدث اليوم!».
ثم يشرح لك بالتفصيل كيف أن جملة واحدة في فقرة رابعة من مقاله غيّرت مجرى التفكير في نصف الكرة الأرضية... والمشكلة أنه لا يتذكر سوى عنوان المقال، ونسي كل الحجج التي كتبها.
بجواره تجلس ليلى مذيعة الراديو، التي تنتظر أي فرصة لتقول «أما أنا فاستضفتُ الأسبوع الماضي خبيراً عالمياً...». لا يهم ماذا قال الخبير، المهم أنها استضافته. تصف اللقاء وكأنها حصلت على أسرار الدولة، بينما كان الضيف يروج لكتابه الجديد بين فاصلين موسيقيين.
ولا ننسى خالد المحاور التلفزيوني، سيد اللحظة الدراماتيكية. يروي أي قصة عادية كما لو أنها حلقة من مسلسل مثير «وكنت هناك، نظرت في عينيه وقلت له: هل أنت مستعد لتحمل تبعات هذا القرار»؟... ثم صمت طويل على الهواء مباشرة، كان صمتاً مدوياً! «في الواقع، كان الضيف يحاول أن يتذكر إن كان قد أغلق غاز البيت قبل المجيء».
وأخيراً، منى صانعة المحتوى، التي تعيش حياتها كـ«بودكاست» متحرك. كل وجبة طعام، كل نزهة، كل فكرة عابرة يجب أن تُصور، تُعدل، وتُعرض للجمهور. تقول «مشاركتي البسيطة عن كوب القهوة هذا حصلت على 200 إعجاب في ساعة! الجمهور يثق في رأيي بشكل لا يصدق!» الجمهور -في الغالب- ينتظر الفيديو الذي يليه.
الغريب في هذه المجموعة أنهم جميعاً، وبكل فخر، يحملون بطاقات عضوية في جمعيات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية. ليست العضوية النشطة، لا سمح الله. بل العضوية «الورقية». بطاقة في المحفظة تذكرهم بأنهم «مناصرون لحقوق الإنسان»، أو «أعضاء في مبادرة للتنمية»، أو «داعمون للثقافة».
سامي يحمل بطاقة «جمعية حماية التراث الثقافي»، ولم يحضر اجتماعاً واحداً، لكنه يذكرها كلما تحدث عن أهمية الهوية. أما ليلى عضو في «اتحاد النساء القويات»، وذكرتها مرة في تغريدة منذ عامين. خالد يحمل بطاقة «اللجنة الوطنية للحوار»، والتي كانت مجرد ورشة عمل حضرها لمدة يوم واحد. ومنى، بالطبع، مشتركة في «مبادرة شباب من أجل البيئة»، والتزمت بها لمدة أسبوع، حتى انشغلت بتحضير محتوى عن «المكياج» الخاص بها!
هم لا يرون تناقضاً بين سطحية حديثهم وادعاءاتهم العميقة. البطاقة في المحفظة هي الشهادة، والحضور الإعلامي هو الإنجاز. لا يحتاجون إلى فعل أي شيء حقيقي، فالكلام عن الفعل أصبح بديلاً عنه.
في نهاية الجلسة، يتبادلون الإطراءات بشكل دائري: «رائع يا سامي، يجب أن نقرأ مقالك!»، «أحببت حلقتك يا خالد!»، «محتواك always on point يا منى!». ثم يغادر كل منهم، محملاً بأوهام العظمة، ومستعداً للجلسة القادمة، حيث سيتذكرون فجأة أنهم «لم يتحدثوا عن أنفسهم enough» هذه المرة!
خلاصة القول عزيزي القارئ الهمام! يا من تعيش في زحام الكلام وشخصيات ورقية مصنوعة من الأوهام... الحياة ليست منبراً، والإنجاز الحقيقي لا يُختزل في بطاقة محفظة أو مقطع منسي. لكن، لماذا ننغص عليهم فرحتهم؟ فبعد كل شيء، إذا لم يتكلموا عن أنفسهم، فمن سيفعل؟
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.