هل خسر اليسار الليبرالي كتلة الوسط من غالبية الناخبين العاديين؟
سؤال معقد، لصعوبة تعريف هذه الكتلة، ستكون الإجابة عنه أكثر صعوبة. الملاحظ بنظرة سريعة أن أهم أسباب صعود اليمين البريطاني نجاحه في انتزاع الأعلام الوطنية، ولافتات قضايا كالحريات المتعددة، والعدالة الاجتماعية بأنواعها، من أيدي اليسار الليبرالي التي رفعتها لـ80 عاماً. مثلاً نموذج الإعلام البريطاني (سرديته على الأغلب ليبرالية يسارية بالتفكير الجمعي لهيئاته التحريرية) في تغطية لمسيرة «توحيد المملكة» السبت الماضي، شارك فيها ما بين 120 إلى 200 ألف، حسب التقديرات المختلفة في لندن. التغطية بيّنت «صعود اليمين» بلا قصد بسبب الهوس بظاهرتين؛ السباق اللحظي بين الشبكات الإلكترونية والبثّ المباشر والتواصل الاجتماعي؛ وأيضاً التركيز على الجانب المثير (بمفهوم «عض الولد كلباً...») على حساب تقديم مضمون متكامل لملايين المشاهدين والمستمعين والمعلومات للمشاهدين الذين لم يحضروا المسيرة. فقد ركّزت التغطية على احتجاز 25 شخصاً، كانوا أفلتوا من المسيرة، وحاولوا التصادم مع متظاهرين من مسيرة أقل عدداً كانت لليسار وحلفائهم (نحو 3000 آلاف) «مضادة للعنصرية». العدد أقل من المحتجزين المشاغبين في مباريات كرة القدم الأسبوعية، لكن هوس الإعلام بتقديمهم لهؤلاء، وأغلبهم ثمالى، كمؤيدي تومي روبنسون ومجموعته اليمينة المتطرفة (رابطة الدفاع الإنجليزية)، منحه دعاية لا يحلم بها.
روبنسون وأتباعه يواجهون اتهامات ترويج خطاب كراهية عنصري، وإثارة جو يؤدي إلى الانقسام والنزاعات، وهي مخالفات قانونية. وكان قضى عقوبة الحبس بتهمة ازدراء القضاء، لمخالفته حكماً بعدم نشر تفاصيل قضية منظورة (وهو أمر تلتزم به الصحافة هنا، لأنه قانون البلاد)، لكنه ادّعى أنه «سجين رأي». الإعلام وقع في خطأ مسيرة وحدة المملكة «بمسيرة روبنسون». فهو ورابطته واقعياً غير قادرين على حشد أعداد لا تصل حتى 3 في المائة من المشاركين، خاصة أن المسيرات التي قادها سابقاً لم يتجاوز أكبرها بضع مئات.
معظم المشاركين في مسيرة، السبت الماضي، كانوا من كتلة الوسط من الناس العاديين، بتحليل شعاراتهم ومطالبهم في مقابلاتهم مع وسائل إعلام محلية أو صغيرة وعلى منصات التواصل الاجتماعي، ومن اللافتات التي حملوها. ويمكن النظر للقضايا التي تظاهروا من أجلها حسب الأولويات والعوامل المشتركة بين المتظاهرين. أهم العوامل قضية الهجرة، خاصة غير الشرعية، ويتفرع منها أيضاً قضايا مشابهة، مثل قضية الأمن المحلي، خاصة في مناطق الضواحي حيث تعيش الأسر. وكان بين اللافتات مطالبة بالحماية خاصة للنساء والفتيات في السير في الطريق بلا مضايقات. ولذا كان بين المشاركين أعداد كبيرة من العائلات، والأمهات بأطفالهن، خاصة من الريف. وكان لمشاركي الريف لون خاص بهم، وهو الجمع بين 3 قضايا؛ الترويج لمنتجاتهم، بتوزيعهم الكعك ومأكولات الريف وعصير التفاح كاستعراض لمحافظتهم على «الثقافة البريطانية» (هدف معلن لشعار مسيرة «توحيد المملكة»)، بجانب الاستمرار في معارضة سياسة حكومة ستارمر تجاه الريف، وفرضها الضرائب على المزارعين، خاصة ضريبة تركة المزرعة التي ستؤدي إلى تفتيت الملكية الزراعية.
ولا يمكن تسمية هؤلاء «يميناً متطرفاً»، أو كتلاً أخرى في المسيرة، ومنهم المتقاعدون، وكبار السن، والمتعاطفون معهم، بسبب قطع الحكومة العمالية دعم فواتير الطاقة عن كبار السن، الذي يؤثر في قرابة مليون متقاعد، ولديهم أيضاً الانطباع بأن الحكومة، ووسائل الإعلام الكبرى، «تشيطن» كبار السن كعالة على الصحة والخدمات.
حرية التعبير كانت عاملاً مشتركاً، فتقرير اتحاد الدفاع عن حرية التعبير أشار إلى 12 ألف حالة تدخل فيها البوليس، إما لتحذير الأشخاص أو استدعائهم لتوقيفهم، بسبب ما نشروه على وسائل التواصل الاجتماعي، وآخرها مثلاً توقيف كوميديان في مطار هيثرو، لشكوى أن تغريدة له جرحت مشاعر أحدهم. وتصادف أن رجال البوليس في المطار كانوا مسلحين، فأعطت انطباعاً سيئاً. المفارقة أن معظم أصحاب البلاغات من التيارات اليسارية والليبرالية. ويذكر القارئ قضية اللامنبرة بإرغام اتحادات الطلاب اليسارية إدارات الجامعات على إلغاء محاضرات وسحب الدعوة من محاضرين لحرمانهم من «منبر التعبير» لإبدائهم آراء - في الماضي أحياناً - لا تتفق وما يرونه اليوم صوابية سياسية. باختصار، أصحاب مطالب قضايا وقيم كانت في السابق من أولويات الحركة النقابية واليسار الليبرالي، كالإسكان، وحماية النساء، وغلاء المعيشة، والأهم حرية التعبير، لم يجدوا حزباً أو تياراً وسطياً يتبنى هذه المبادئ، فالتحقوا بمسيرة بدت لافتتها وطنية، ساعد الإعلام الليبرالي اليمين على اختطاف راياتها.