حسناً، ما استنتاجك النهائي بعد زيارتك الأخيرة إلى البندقية (فينيسيا)؟ هل هي مدينة أم دولة؟ برٌّ أم مياه؟ أم هي خليط ساحر من كل هذا ولا مثيل لها في التسميات والتصنيفات؟ أياً كانت التسمية، فهي دقيقة.
فقد كانت على مرّ القرون من أعظم الدول التجارية. سيدة التجارة الشرقية، والقوة البحرية الأعظم في ذلك الوقت.
لأكثر من ألف عام، كانت البندقية شيئاً فريداً بين الأمم، نصفها شرقي ونصفها غربي، ونصفها بري ونصفها بحري، ومتربعة بين روما وبيزنطة، وبين المسيحية والإسلام، قدم في أوروبا والأخرى تغوص في لآلئ آسيا.
كانت تطلق على نفسها اسم «سيرينيسيما»، وتزين نفسها بقماش من ذهب، كان لها تقويمها الخاص، حيث تبدأ السنوات في الأول من مارس (آذار)، وتبدأ الأيام من المساء. هذا الغرور المنعزل، والنابع من حصون البحيرة، منح البنادقة القدامى شعوراً غريباً بالعزلة.
مع نمو جمهوريتهم في العظمة والازدهار، وتصلب شرايينهم السياسية، وإثراء سيل من الغنائم المبهرة لقصورهم، أصبحت البندقية محاصرة بالغموض والعجب، وقفت في خيال العالم بين مكان ما غريب وحكاية خرافية.
وظلت قبل كل شيء مدينة مائية لا هوادة فيها. في الأيام الأولى شق البنادقة طرقاً وعرة في جزرهم، وركبوا البغال والخيول:
لكنهم طوروا سريعاً نظام القنوات، بناء على القنوات والمياه والجداول الموجودة، والتي لا تزال حتى يومنا هذا واحدة من عجائب الدنيا.
بنيت عاصمتهم، مدينة البندقية نفسها، على أرخبيل في قلب البحيرة. كان ممشاهم هو القناة الكبرى، والطريق السريع المركزي لهذه المدينة الذي يتأرجح في منحنى ملكي عبر موكب من القصور.
كان شارعهم الرخيص، أو وول ستريت، وهو الريالتو أيضاً، جزيرة في البداية، ثم حياً، ثم أشهر جسر في أوروبا. وكان نبلاؤهم يركبون زوارق ذهبية رائعة، وخارج كل بيت نبيل كانت الجندولات راسية برشاقة في مراسيها.
طورت البندقية مجتمعاً برمائياً خاصاً بها، وكانت أبواب قصورها الأمامية المزخرفة تفتح مباشرة على الماء.