حسين الراوي
في مراهقتي، كنتُ أتجه إلى أقرب صندوق بريد من منزلنا حاملاً ظرفاً صغيراً، لكنني لم أكن أضع فيه ورقةً وكلماتٍ فحسب، بل كنت أُدخل معه الكثير من الأمنيات والمشاعر والرغبات والانتظار. كان الصندوق بالنسبة لي أشبه بخزنةٍ سحرية تحفظ قلبي وتلقي به في المدى.
كنت أراسل الصحف والمجلات وإذاعات الراديو، وحين كنت أرى مشاركتي مطبوعة على الصفحات أو أسمع صوتها يتردّد عبر الأثير، كنتُ أفرح فرحاً عظيماً، فرحاً يتجاوز حدود الكلمات، كأن الرسالة لم تعد تخصني وحدي، بل صارت جزءاً من العالم.
لم تعد الأرواح البسيطة تُطلّ من بين الأوراق، ولا المشاعر النبيلة تتجسّد في كلماتٍ مكتوبة بخط اليد، بعيداً عن أقنعة العالم الجديد.
في زمنٍ لم تكن الهواتف فيه تطنّ كأعصابٍ متوترة في الجيوب، ولا البريد الإلكتروني يفيض برسائل بلا حرارة، كان لساعي البريد حضورٌ فريد في القرى والبلدات. لم يكن ناقلاً للرسائل فحسب، بل ظلّ المحبين وصدى الأمهات، والواسطة التي تربط الغائب بالحاضر.
كان يحمل في حقيبته أوراقاً تفوح منها رائحة الحنين، وأظرفاً مختومة بالشوق، وخطوطاً مرتعشة كُتبت على ضوء مصباح كيروسين، لا على شاشةٍ باردة. وكان كل بابٍ يطرقه نافذةً تُفتح على قلب ينتظر كلمة، أو اعتذاراً، أو وعداً.
بالفعل وكما جاء في عنوان المقال: «منذ أن رحل ساعي البريد، لم تصل رسالة دافئة»... ليست حنيناً عابراً، بل مرآة لتحوّلٍ عميق في طبيعة تواصلنا.
غابت الرسائل المكتوبة بخط اليد، وبهتت معها حرارة العاطفة. أصبحنا نكتب كثيراً ولا نقول شيئاً، نتواصل سريعاً من غير أن نصغي، نرسل صوراً أكثر مما نرسل قلوبنا.
كان ساعي البريد رمزاً لزمنٍ لا يعرف التعقيد؛ زمن كان الناس فيه يحبّون بلا حدود، ويشتاقون من غير حرج، ويكتبون بلا حاجة إلى قاموسٍ للبلاغة. كانت الأرواح بسيطة، لكن عظيمة.
الحياة آنذاك لم تكن سهلة، لكنها كانت صادقة. كان الحنين يُكتب لا يُقال، وكان الشوق يُعلَّق على الأبواب في شكل رسائل تُقرأ حتى يتآكل الورق وتتقطّع الحروف.
قال جاك دريدا ذات يوم «الرسالة لا تصل أبداً تماماً، وإن وصلت فهي تصل دائماً متأخرة».
تلك المتأخرة كانت على ظهر الساعي، يحملها كأقدارٍ لا يعرف أنه يوزعها: دمعة، قُبلة، قطيعة، وربما موتاً.
أمّا اليوم، فحين نكتب عبر الهاتف، نكتب للجميع لا لشخصٍ واحد. بلا خصوصية، بلا رهبة الكتابة ولا بهجة الانتظار. تصل الرسائل لتُقرأ في عُجالة، ويأتي الردّ بلا شعور بثقل المسافة ولا حرارة الشوق.
ربما لم يكن ساعي البريد يعرف كم نحن ممتنون له. كان يأتي ويمضي، ولا ندرك أن خطواته الهادئة تحمل أكثر مما نتصور: كانت تحمل الحياة نفسها.
الرسائل لم تكن مجرد كلمات، بل أحداث مكتوبة، ومشاعر معبّأة في ظرف. تُقطف من القلب وتُرسل، لا من زرّ النسخ واللصق. كانت تستغرق أياماً لتصل، وأياماً أطول لتُفهم. لكنها كانت تصل دافئة، كأنها خرجت لتوّها من صدر عاشق.
اليوم، صمتت صناديق البريد، ولم يبقَ في جيوبنا سوى إشعارات إلكترونية عابرة لا تحمل سوى صدى تنبيهات منزوعة المشاعر!