منيرة أحمد الغامدي
في ظل ما تشهده المملكة العربية السعودية من تحولات اقتصادية كبرى تقودها رؤية 2030، تبرز الحاجة المتزايدة إلى بيئة تنظيمية أكثر اتساقًا وتكاملًا. وبينما تبذل وزارتا التجارة والاستثمار جهودًا جبارة كلٌّ في مجال اختصاصه يلاحظ المتابعون والممارسون من الداخل والخارج وجود تقاطعات تنظيمية وتشغيلية بين الوزارتين «قد» تُربك المستثمر وتُضعف كفاءة المنظومة الاستثمارية ككل.
وزارة الاستثمار تسعى إلى جعل المملكة واحدة من أكثر الوجهات الجاذبة لرأس المال العالمي عبر ترخيص مرن ورسائل تسويقية دولية وحوافز استراتيجية، وفي المقابل فإن وزارة التجارة تضطلع بمهمة ضبط الأسواق وتنظيم السجلات ومراقبة النشاطات التجارية الداخلية وحماية المستهلك. ورغم أن الأهداف العامة لكلتا الوزارتين متكاملة إلا أن التداخل في الأدوار والاختصاصات «ربما» يُحدث أثرًا مباشرًا على تجربة المستثمر.
تبدأ رحلة المستثمر غالبًا من وزارة الاستثمار عبر الحصول على ترخيص استثماري لكنه سرعان ما يجد نفسه مضطرًا إلى التعامل مع وزارة التجارة لاستخراج سجل تجاري ثم الالتزام بأنظمة تنظيمية تختلف في مرونتها ومقاربتها، وفي بعض الحالات تظهر اشتراطات متعارضة أو إجراءات متكررة تؤخر بدء النشاط، ويظهر التباين بشكل أوضح في القطاعات الناشئة التي قد تجد تشجيعًا من وزارة الاستثمار بينما تُقابل باشتراطات مشددة من وزارة التجارة.
تجدر الإشارة إلى أن مجلس الشورى كان قد تناول هذا الملف في إحدى توصياته الأخيرة حين دعا وزارة الاستثمار إلى معالجة تقاطع الاختصاصات مع جهات حكومية أخرى، وهو ما يُعزز الحاجة إلى بناء نموذج مؤسسي أكثر تكاملًا، كما طالب المجلس بتطوير مبادرات لاستقطاب رؤوس الأموال الوطنية في الخارج وبرامج تضمن استدامة الموارد المالية وهي أهداف لا يمكن تحقيقها بكفاءة في ظل بيئة تنظيمية قد تكون مزدوجة أو «ربما» غير متناسقة.
لا تكمن الإشكالية في الإجراءات فقط بل في الهوية المؤسسية لكل وزارة، فوزارة الاستثمار تُقدّم نفسها كذراع تسويقي عالمي للمملكة، بينما تُمثّل وزارة التجارة الجهة المنظمة للسوق الداخلي، وهذا ما يُربك الرسالة الموجهة للمستثمر الأجنبي الذي يبحث عن من يقود؟ ومن يضمن؟ ومن ينفذ؟، وهذا ما يعرف في المفاهيم العالمية بفجوة النموذج الاقتصادي التشغيلي (Economic Operating Model)، أي غياب إطار واضح يحدد من يملك تجربة المستثمر بالكامل.
أضف إلى ذلك ما يُعرف في أدبيات السياسات العامة بـالتكلفة غير المرئية (Hidden Costs) فالتأخر في التراخيص أو الانسحاب من مشاريع أو إعادة الهيكلة القانونية بسبب التعارض المؤسسي كلّها أمور لا تُسجّل كخسائر مباشرة، لكنها تؤثر فعليًا على ترتيب المملكة في مؤشرات التنافسية مثل مؤشر سهولة ممارسة الأعمال (Ease of Doing Business) ومؤشر ثقة الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI Confidence Index).
وعلى امتداد المنظومة الاستثمارية في المملكة تتوزع المهام اليوم بين عدة جهات رسمية لكل منها دور جوهري، إلا أن تشابك تلك الأدوار يسلّط الضوء على الحاجة إلى كيان تنسيقي أعلى، فـوزارة الاستثمار تُعنى بجذب رؤوس الأموال في حين تُشرف وزارة التجارة على مركز الأعمال السعودي المعني بتوحيد إجراءات التأسيس والتشغيل، وفي الوقت ذاته يُدير المركز الوطني للتنافسية التابع لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ملفات الإصلاحات التشريعية والتنظيمية الذي كان في سنوات سابقة مركز تابع لوزارة الاستثمار حين كانت هيئة ويتولى تحسين ترتيب المملكة في المؤشرات الدولية.
وتُعدّ البنية المؤسسية للمركز الوطني للتنافسية مثالًا على التداخل الإيجابي الممكن بل والمحتمل، حيث يرأس مجلس إدارته معالي وزير التجارة ويشغل معالي وزير الاستثمار منصب نائب الرئيس ويتولى نائب وزير التجارة رئاسة المركز التنفيذي، وهذه التركيبة وإن دلّت على مستوى عالٍ من التعاون إلا أنها تُشير كذلك إلى أهمية تطوير نماذج حوكمة تكاملية تُعزز من استقلالية القرار وتنسيق الرؤية.
وقد أتيحت لي فرصة العمل سابقًا في إحدى الوزارتين المعنيتين وهي تجربة أعتز بها وأقدّر ما فيها من جهود مخلصة وبناء مؤسسي متراكم، ومن هذا الموقع المهني لا أطرح هذا المقال من زاوية نقدية بل من باب الإسهام في مسيرة التحسين المستمر التي تقودها المملكة، فالرؤية التي تجمعنا داخل الجهاز الحكومي وخارجه هي رؤية 2030 التي تقوم على مبدأ أن التطوير لا يعني التقليل من الجهود السابقة بل البناء عليها.
ولعل من المقترحات والمرئيات ولأن إصلاح البيئة المؤسسية لا يكفي أن يُبنى على التنسيق الظرفي أو الآني، فإن الحل المقترح هو تأسيس هيئة عليا مستقلة (High Council for Investment الجزيرة Trade Integration) تشكّل المرجعية العليا لتكامل السياسات والأنظمة والخدمات ذات العلاقة بالمستثمر، وتملك صلاحية التوجيه والربط بين الجهات وترتبط مباشرة بمجلس الشئون الاقتصادية والتنمية.
من الحلول أيضاً إطلاق منصة رقمية موحدة تعتمد على واجهات برمجية مرنة (API Integration) لربط البيانات بين الجهات وتقديم رحلة موحّدة للمستثمر. وحيث لكل جهة مؤشرات الأداء الخاصة التي تسعى إلى تحقيقها فإنه من المهم تصميم مؤشرات أداء تكاملية (Integrated KPIs) تقيس رضا المستثمر ووضوح الإجراءات وسرعة التنفيذ وتناسق عمل الجهات الحكومية.
يُذكر أن وزارة الاستثمار منذ كانت هيئة أطلقت ما عُرف حينها بمركز الخدمة الموحد (One Stop Shop) الذي مثّل آنذاك محاولة متقدمة لتيسير إجراءات المستثمر من خلال نقطة خدمة واحدة تربط بين الجهات المعنية، وكان من مهامه النبيلة حينها دعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر الوطنية الناشئة ومعاملتها معاملة المستثمر الأجنبي الكبير من حيث تسهيل الإجراءات. ورغم أهمية التجربة حينها إلا أن التطورات المؤسسية وتسارع حجم الاستثمارات النوعية تتطلب اليوم مركزًا تكامليًا بمفهوم أوسع وأكثر صلاحية، ومن هنا، يُطرح مقترح مركز تكامل الجهات الاستثمارية الذي لا يُعيد أو يكرر التجربة بل يُطوّرها من خلال نموذج تنسيقي فعّال بين الجهات الحكومية ونافذة تصعيد مباشر تُسهم في المعالجة الفورية للتعارضات إن حدثت، وبناء سجل يُستخدم لاحقًا في صياغة السياسات.
ومن المهم الإشارة إلى أن إنشاء هذا المركز لا يتعارض مع مقترح إنشاء هيئة عليا موحدة تُشرف على المنظومة الاستثمارية والتجارية بل يُمكّنه ويغذّيه بالبيانات الحية والتجارب الواقعية، كما أن وجود الهيئة العليا لا يُلغي الدور المحوري للمركز الوطني للتنافسية بل يُكمّله ويستفيد من مخرجاته ضمن منظومة تنموية تحترم التخصص وتدعم التكامل.
إن المملكة لا تفتقر إلى الكفاءات ولا إلى الطموح أو الوضوح ولكن المنظومة المتقدمة تحتاج إلى اتساق مؤسسي في كل نقطة تلامس المستثمر، ومع استمرار هذا التحول الوطني فقد حان الوقت للانتقال من التنسيق إلى التكامل ومن التداخل إلى التكامل المؤسسي البنّاء، وحين تتقاطع المسارات لا بد من جهة عليا واحدة تقود الاتجاه بثقة.