: آخر تحديث

تصفية المحاور السياسية

6
5
5

الدول العظمى في العالم لديها من عناصر القوة المتعددة ما يجعلها قادرة على بناء محاور سياسية وتصفية مثيلاتها، مع القدرة في الآن ذاته على غض الطرف عن بعض الدول نكاية بدول أخرى أو بغرض ابتزازها باستمرار، هكذا جرى في الماضي ويجري في الحاضر، والنماذج كثيرة على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

باستقراء الواقع وأحداثه وسياساته يمكن بسهولة معرفة أن سياسات أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ وهي أميركا، قد تغيرت بالكامل عن عهد الإدارة السابقة، وأن الرئيس ترمب دخل البيت الأبيض في ولايته الثانية مختلفاً عن ولايته الأولى، فلم يعد لديه ما يخسره وهو يعيد ترتيب علاقات أميركا بالعالم كما يشاء ضمن التوازنات السياسية الداخلية الأميركية، ولكنه يذهب بالأمور لمداها الأقصى.

يفعل ذلك مع كندا، ومع المكسيك، ومع غرينلاند الدنماركية، ومع أوروبا دولاً واتحاداً، وكذلك مع «الناتو»، وهو يصنع الأمر ذاته تجاه منطقة الشرق الأوسط، والقرار واضح في تغييرات جذرية للخرائط السياسية حول العالم، دون مواربةٍ أو دبلوماسية، وكما هو قادر على إنهاء الحروب كما في الحرب الروسية الأوكرانية، فهو قادر على إشعال غيرها، خصوصاً في منطقتنا.

ثمة مؤشراتٌ تؤكد أن «أميركا ترمب»، وأميركا الدولة، لديهما هدف لتغيير كثيرٍ من المبادئ الدولية، والمواضعات السياسية، وتوازنات القوى حول العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، والتي يمثلها «النظام الدولي» وفي منطقتنا تجلَّى ذلك بوضوحٍ في القيادة الأميركية الكاملة لضرب «محور المقاومة» الذي سمحت له أميركا وأوروبا بالعمل والتوسع أكثر من أربعة عقود على حساب دول المنطقة.

المؤدلجون العرب وأمثالهم من مؤيديهم في الإعلام والتحليل السياسي من الباحثين والكتّاب والمعلقين، لا يستطيعون استيعاب حجم التغييرات الكبرى التي تجري حول العالم وفي الشرق الأوسط، فقد ركض كثيرٌ منهم خلف اليسار الليبرالي الأميركي، وطروحات أوباما، وسياسات بايدن التي أوصلت العالم لحافة الهاوية والحرب العالمية الثالثة، والتي جاء ترمب ليوقفها جميعاً بقرارٍ سياسيٍ ورؤية سياسية أكثر اتزاناً وإن لم تكن أكثر دبلوماسيةً.

تجاه القضية الفلسطينية وحرب غزة، صفق كثيرٌ من المثقفين والمحللين والكتّاب والقنوات لما جرى في غزة في 7 أكتوبر (تشرين الأول) قبل سنتين، وأفسدوا عقول الشعوب بشعاراتهم ومفاهيمهم حول معنى النصر والهزيمة، وحول رفض الواقعية السياسية، وبترويجٍ للرؤية الآيديولوجية الضيقة، فشاركوا شاءوا أم أبوا في دفع «حزب الله» اللبناني إلى نهايته المحتومة حين اقتنع بذلك الطرح.

استمروا في غيهم السياسي يعمهون، وفي تحليلهم يتيهون، فسقط نظام الأسد في سوريا، وجاءت الخسارة الكبرى للمحور قاسيةً وقويةً وسريعةً، فبدأوا بالتشبث بالوهم وسعوا لتمجيد «ميليشيا الحوثي»، وأنها ستقضي على أميركا وإسرائيل وسيدعمها «المحور» بكل قوته، فجاءت الهجمات الأميركية المركزة وغير المسبوقة ضد هذه الميليشيا، قياداتٍ ومقراتٍ وأسلحةٍ ومؤيدين، وتهدد بالقوة الخشنة أي تحركاتٍ داعمةٍ لها إن من العراق أو من أي دولةٍ تقود المحور أو تشارك فيه.

حديث الأوهام يتبخر أمام قوة الواقع، ولنا أن نتذكر أنه قبل عقدٍ ونصف العقد، كانت أحداث ما كان يُسمى «الربيع العربي» تملأ السمع والبصر، وكانت ضمن رؤية أوباما التي هدفت إلى إسقاط الجمهوريات العربية وتسليمها لجماعات الإسلام السياسي، وطبلت لذلك أقلامٌ وكتابٌ وقنوات.

هنا يجب طرح أسئلةٍ ملحةٍ، مَن المسؤول فعلياً عمّا جرى في غزة؟ فساد السلطة، نعم. تشتت الرأي والقرار، نعم. ولكن أيضاً عمل «محور الممانعة» وعمل «المحور الأصولي» مع حركة «حماس»، ولكن المؤثر الأكبر كان رضا إسرائيل ونتنياهو عن انقلاب «حماس» ومدها الدائم بالحياة وضمان استمراريتها.

ثم من قبل، مَن المسؤول فعلياً عن إرهاب تنظيم «القاعدة»؟ الخطاب المتطرف دينياً، نعم. وخطاب جماعات «الإسلام السياسي»، نعم. ولكن ما منحته الحياة والقدرة على التأثير هي السياسات الغربية التي كانت تدافع عن قياداته ورموزه، وتضغط على دول المنطقة حتى لا توقف مده، ومنعها من المواجهة الصريحة والقاطعة، مع إيواء رموز وقادة هذه التنظيمات، وغض الطرف عن الدولة الإقليمية التي تكفلت بالتنظيم رعايةً ودعماً وتدريباً.

وأيضاً، مَن المسؤول فعلياً عن تنظيم «داعش»؟ نظام الأسد، نعم. ودولة إقليمية استفادت من صادراته، نعم. ولكن قبل ذلك الحكومة العراقية وقتها وداعمتها الإقليمية حينذاك، والأموال المليارية التي كانت تتدفق على التنظيم تحت مسميات متعددة.

أخيراً، فالسياسة ليست مؤامرة، بل هي قوة وتوازنات ومصالح، ولأجل ذلك تُبنى الاستراتيجيات وتُصنع السياسات وتتخذ القرارات، وكذلك تحاك المؤامرات، ولكن في منطقتنا دائماً ما تجد موقفاً غربياً متراخياً أو متقلباً يحمي بعض الجهات دولاً وجماعات وأفراداً، ثم يهاجمها أو العكس.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد