عبدالله خلف
حدّث عمرو بن بحر الجاحظ قال: ذُكرتُ لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب ولده، فلما نظر إليّ فاستبشع منظري وأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني فخرجتُ، فلقيتُ محمد بن إبراهيم، وهو يريد الانحدار إلى مدينة السلام، وأمر بنصب الستائر، وأمر بالغناء، فاندفعتْ عوّادة له تُغني بصوت جميل فغنت:
كل يوم قطيعةٌ وعتاب
ينقضي دهرنا ونحنُ غضابُ
ليت شعري أنا خُصِّصت بهذا
دون ذا الخلق أم كذا الأحبابُ؟!
ثم سكتت، وأمر الطُنبورية فغنت:
وارحمتي للعاشقينا
ما إن أرى لهُمُ مُعينا
كم يُهجرون ويُظلمون
ويُقْطَعون فيصبرونا
وتراهمُ مما بهم
بين البرية خاشعينا
يتجلدون ويُظهرون
تجلداً للشامتينا
وقالت لها العوادة: فماذا يصنعون؟ قالت: يصنعون هكذا، وضربت بيدها على الستارة فهتكتها فرمت بنفسها إلى الماء لتغرق وكان في المجلس فتى جميل الطلعة باهي الحسن والجمال، فلما رآها وما صنعت أتى إلى حيث رمت نفسها وهو يقول:
أنتِ التي غَرقتني
بعد القضا، لو تعلمينا
وزجّ بنفسه في إثرها، وتعانقنا ثم غاصا ولم يُريا، فأدار الملاحُ (الحراقة)، وهي نوع من المراكب ليرى، فإذا بهما معتنقين، ولا مجال لإنقاذهما.
كان الجاحظ في مجلس سليمان بن عبدالملك، عندما جلس يوماً للنظر في المظالم فظهر فتى وقال: إن رأى أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- أن يُخرج إليّ جارية من جواريه حتى تغنيني ثلاثة أصوات؟ فاغتاظ سليمان، ولكنه أمر بحُضور الرجل، وسأله ما الذي حملك على هذا؟
فقال: الثقة بحلمك، والاتكال على عفوك، فأمر فأُخرِجَت إليه الجارية، وطلب أن تغني:
تعلق روحي قبل خَلقها
من بعد ماكنا نطافا وفي المهد..
ثم صعد إلى سطح القصر ورمى بنفسه فمات.