: آخر تحديث

اللبنانيون الشيعة... وأهمية ترسيخ الاعتدال

3
3
3

التغيرات البنيوية الجارية في الشرق الأوسط تتوجب تفكيراً من خارج الصندوق، لا يركن إلى أنماط المقاربات السياسية والثقافية القديمة؛ بل يتجاوزها ليكون قادراً على الفهم الدقيق لما يجري أولاً، والتعامل معه بما يقتضيه الوضع ثانياً، وابتكار أدوات معرفية - سياسية جديدة قادرة على استشراف المستقبل، وإلا ستقع الجماعات والتيارات السياسية، وحتى الدول، في معضلات تتراكم الواحدة تلو الأخرى.

بعد العدوان الإسرائيلي الواسع على غزة ولبنان، وما مارسته تل أبيب من تهجير قسري وإبادة جماعية واحتلال لأراضٍ في فلسطين ولبنان وسوريا، وما أظهرته من تفوق عسكري وتقني واستخباراتي، قاد لتلقي «محور المقاومة» ضربات أضعفت بنيته الهيكلية، وأفقدته قيادات تاريخية مؤثرة، بات لزاماً على قيادات هذا المحور، تحديداً «حزب الله» في لبنان، أن يبدأ مراجعة متأنية وصريحة مع الذات، بعيداً عن التفسيرات التبسيطية أو القلق من الإجابات الصعبة، لأن هذه المراجعة ليست حاجة للحزب وجمهوره فقط، بل لعموم المواطنين اللبنانيين الشيعة، وهم الذين شكلت لهم نتائج الحرب الإسرائيلية المدمرة زلزالاً سياسياً واقتصادياً، لا يقل في مفاعيله بحسب وجهة نظري عن نكسة 1967!

من هنا، هذه المراجعات لا يجب أن تذهب نحو معالجة الخللين الأمني والعسكري وحسب، وإنما السؤال عن أي لبنان يرادُ له أن يكون، وكيف يمكن أن تنسج العلاقات بشكل طبيعي ومتوازن مع مختلف مكونات الشعب اللبناني، وما الآليات الحقيقية لبناء دولة حديثة قوية قادرة على حماية الحدود، تكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين بعيداً عن المحاصصتين الطائفية والحزبية!

هذه الأسئلة وسواها يجب أن يطلق لها العنان، وألا تكون هنالك حواجز، أو انكفاء على الداخل، أو خوف من الآخر الشريك في الوطن، حتى لو كان بعض هذا الآخر عنيفاً في مقارباته أو نقده أو ساعياً للاستقواء!

المراجعات الصريحة بحسب متابعاتي حاصلة داخل بيئة «حزب الله» الحاضنة له، وهي تجري في المجالس الخاصة والعامة، وشيء منها ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه النقاشات مفيدة جداً، لأنها بالتأكيد ستقود إلى حلول وأفكار عملية تعكس ثراء معرفياً لدى اللبنانيين الشيعة، الذين كانوا ولعقود طويلة متعددين في آرائهم وتياراتهم، وليسوا حكراً في التمثيل على جهات حزبية محددة.

لقد كان تاريخ اللبنانيين الشيعة، مسيرة من التراكم المعرفي والفني والسياسي، وشكل الشيعة خزاناً للتيارات اليسارية والمدنية والشيوعية والليبرالية والدينية الكلاسيكية وحتى الثورية منها؛ أي أن اختصار الشيعة في «حزب الله» أو «حركة أمل» أمرٌ غير واقعي ولا يعكس الحقيقة الفعلية للبنان، رغم ما يحظى به «الثنائي الشيعي» من قوة في المجتمع وأجهزة الدولة.

إن الانكفاء على الداخل لم يكن يوماً خياراً مفيداً؛ بل يدمر صاحبه، ويقوده إلى الاضمحلال المعرفي، ويفقده قدرته على التطور والمرونة. ولذا، أي مكون مجتمعي بحاجة للتجديد، خصوصاً عندما يكون لديه تاريخ تراكمي من الاعتدال والثقافة المنفتحة حتى في أوساط قيادات دينية مهمة أثرت في مسيرته، لأن ما حصل بعد الثورة الإسلامية في إيران، هو أمرٌ طارئٌ وليس الأصل، وجاء ليحجمَ من الحيوية اللبنانية ويسلبها جزءاً من ملامحها.

إن شخصيات مثل الإمام موسى الصدر، والعلامة محمد مهدي شمس الدين، والمرجع محمد حسين فضل الله، والسيدين هاني فحص ومحمد حسن الأمين، هم نماذج عن هذه التعددية اللبنانية الشيعية؛ فهم رغم كونهم جميعاً علماء دين، فإنهم كانوا لبنانيين أولاً في خطابهم ومشاريعهم، تحلوا بالروح الوطنية، والانتماء العربي، والعقل المنفتح، وتدوير الزوايا، والقدرة على التواصل مع المختلفين في السياسة والطائفة من دون عقد أو مشكلات؛ وأيضاً كانت لديهم قراءتهم الصريحة الناقدة للخطابات العقدية - الانعزالية أو تلك الثورية الطوباوية!

هذه الشخصيات الراحلة، لم تكن نسخاً مكررة، وكانت تتباين أفكارها فيما بينها، وهذا أحد مصادر قوتها؛ حيث إن لكل شخصية منها ملامحها التي تميزها عن الآخر، وهنا ثراء التعدد الذي يجب أن يكرس، وألا ينظر إلى الشيعة في لبنان كأنهم كتلة صماء واحدة!

ليس علماء الدين وحدهم من كان هذا التعدد حاضراً بينهم، فأسماء كثيرة راحلة كانت حاضرة ومؤثرة: حسين مروة، ومهدي عامل، وحبيب صادق، وكامل مروة، وسواهم كثير من المثقفين والفنانين والكتاب الذين برزوا بوصفهم شخصيات لبنانية عربية أولاً وقبل كل شيء! وهنالك من المعاصرين أسماء عدة وازنة، اتسمت بشجاعتها في نقد أفكار «الشيعية السياسية» ورغبتها في اجتراح خطاب وطني مستقل.

الاعتدال، والتعددية، والتواصلية مع الآخر المختلف، والمرونة السياسية والفكرية، والانخراط في مشروع الدولة والمواطنة الشاملة وترسيخ سيادة القانون، والنظر إلى «العهد الجديد» في لبنان بواقعية وإيجابية، والانفتاح على العمق العربي بعامة والخليجي بخاصة، وبناء الثقة معه، هي أمور ضرورية وملحة، وترسيخها سيكون في صالح لبنان المتعدد والقوي بمختلف مكوناتهم المجتمعية، وهي مكونات أصيلة لا يمكن أن يلغيها أحد أو يسلبها حقوقها، فلبنان لجميع اللبنانيين؛ وهي فرصة للتأمل وإن كان صعباً، إلا أنه مخاضٌ إن أُحسنت إدارته والتعامل معه، لن يكون في صالح اللبنانيين الشيعة فحسب؛ بل في مصلحة أمن واستقرار الكيان وتنميته المستقبلية، وسيدفع نحو إصلاحات حقيقية ستجد الدعم من الدول العربية الصديقة للبنان، والمعنية بتنميته وأمنه واستقراره.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد