: آخر تحديث

لا تخاطبوا الناس على قدر عقولهم

5
6
6

أحمد برقاوي

يتداول الناس قولاً ما هو بالحديث وأنكره كثير من الفقهاء مفاده: «خاطبوا الناس على قدر عقولهم».

والحق إن هذا القول لا يستقيم مع وظيفة الكلام. دعونا نحلل بنية هذا القول. هناك مخاطِب ومخَاطب، متكلم ومتَلق، والأمر موجه إلى المُخاطِب-المَُكتلِم، المتكَلِم هنا يفترض بأنه ينطوي على عقل راجح ثري بالمعرفة، أما المتلقي فهو من حيث المبدأ أقل معرفة، بل قد يكون جاهلاً. العاقل العارف المُخاطِب يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الجاهل المُخَاطب، فيخاطبه على قدر عقله. وصيغة على قدر عقله تعني بما يتطابق مع مستوى تفكيره وقدرته على الاستيعاب.

وهذا يعني بأن المتكلم العارف يجب أن يقول كلاماً باستطاعة الجاهل استيعابه.

ولكن العارف يريد أن يزود الجاهل أو قليل المعرفة بمعرفة جديدة يجهلها، يريد أن يحرره من وعي غير عقلي. إذاً العالم المتكلم سيخاطب المتلقي بكلام يجهله، بأفكار جديد، وفي هذه الحال لا يستطيع أن يفعل ذلك إذا خاطبه على قدر عقله.

لأنه إن خاطبه على قدر عقله أبقاه على الحال التي هي عليها، وعندها لم يعد هناك حاجة للمخاطبة أصلاً. فلكي يكون لخطاب المتكلم وظيفة ومعنى فعليه أن يخلق لدى المتلقي شكاً بوعيه السابق، أو فرحاً بما سمع من معرفة تخالف معرفته، لأن الهدف من المخاطبة كما قلنا- نقله من حال إلى حال.

وقائل يقول: إنما المراد هو تلقين المخاطَب شيئاً فشيئاً ونأخذ بيده دون أن نصدمه بالجديد. لكن هذا لا يتطلب أن نخاطبه على قدر عقله، بل أن نخاطبه بما يتجاوز عقله، ونلقنه هذا التجاوز بأسلوب غير منفر. لكن من الذي يقدر على قياس الأسلوب المنفر من غير المنفر؟

وعندي بأن الصدمة بالجديد ذات أثر محمود في أكثر الأحيان، وآية ذلك فإنها تحمل المتلقي على التفكير بالجديد وإذا ما اعتاد الوعي العادي على سماع ما يخالفه وقراءته فإنها ستُخلق لديه عادة سرعان من تحول الاختلاف إلى أمر طبيعي.

وإذا عدنا إلى تاريخ الثقافة العربية سنجد بأن الأوابد الشعرية والثقافية هي تلك التي خاطبت الناس على قدر يفوق قدر عقولها. من خطاب المعتزلة إلى خطاب الفلسفة وعلى رأسهم الفيلسوف الكندي وانتهاءً بابن رشد. وحين سئل أبو تمام لماذا تكتب ما لا يفهمه الناس؟ أجاب ولماذا لا يفهم الناس ما أكتب.

وكيف ننسى أحد أعظم العقول العربية المبدعة -أبا العلاء المعري وكتبه: «رسالة الغفران» و«لزوم ما لا يلزم»، فما زال المعري مصدر إشعاع وتنوير، وهناك آلاف الرسائل العلمية حول كلامه الذي لم يخاطب الناس عبره على قدر عقولهم. هل ننسى الأثر الذي تركه كتاب علي عبد الرازق: «الإسلام وأصول الحكم»، الكتاب الذي أثار حفيظة الأزهر يومها، الكتاب الذي دلل على أن الحكم مدني وأنكر السلطة الدينية.

ومن ينسى كتاب طه حسين في الأدب الجاهلي، وقس على ذلك.

وكثير من عقول الناس ما زالت تؤمن بالخرافات، فهل نخاطبها بما يحررها من الخرافة أو بما يؤكد وعيها.

أقول لكم إياكم ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، فإنكم فإن فعلتم هذا خنتم وظيفة المعرفة، خاطبوهم بما يغني عقولهم، علموهم الصعود إلى ما تقولون لا تنزلوا إلى ما يقولون.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد