محمد مفتي
لعله ليس من المستغرب ولم يكن من المستبعد صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه السابق جالانت، فالقرار كان متوقعاً بل لعله تأخر كثيراً، فمنذ أكثر من عام والآلة الإسرائيلية الدموية الوحشية تعيث في الأرض فساداً وتقتل المدنيين من النساء والأطفال والمسنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان دون هوادة، مدمرة كافة المرافق الأساسية والبنى التحتية بل وكافة أوجه وسبل الحياة بلا أدنى تردد، غير عابئة أو مكترثة بأعداد الشهداء الذين تجاوز عددهم عشرات الألوف، في تحدٍ سافر للمجتمع الدولي ومؤسساته، والذي غدا في حالة احتقان شديدة بسب هذه الممارسات العدوانية.
من المؤكد أن التاريخ لن يغلق هذه الصفحة دون أن يسجل الموقف الدنيء والمتخاذل لعدد من الدول -ومنها الدول العظمى- التي دعمت إسرائيل وساندتها سواء بالسلاح أو الدعم المالي أو بالمعلومات الاستخباراتية أو بالدعم الدبلوماسي، فبمجرد صدور هذا القرار الخاص بالمحكمة الدولية والتي وقع على ميثاقها 124 دولة بالعالم، سارعت بعض الدول بإبداء استنكارها لصدوره ورفضه والتشكيك في مدى صحته بصفاقة بالغة، في خطوة أقل ما توصف به هو أنها تحدٍ سافر لقرارات واحدة من أهم مؤسسات العدالة الدولية، وترسيخ لا يقبل الشك لمبدأ المعايير المزدوجة الذي تتعامل به تلك الدول مع حقوق الشعب الفلسطيني.
لم تبالِ إسرائيل -ولا أعتقد أنها ستبالي- بصدور مثل هذا القرار، فهي تعلم أن تأثير مثل هذا القرار سيتلاشى بمرور الوقت، وبمجرد صدور القرار أعلنت إسرائيل تحديها السافر له واستأنفت آلتها العسكرية ارتكاب المزيد من المجازر، فهي على يقين من أن حليفتها الولايات المتحدة ستعمل على وقف أي قرار بمجلس الأمن يدين إسرائيل أو حتى ممثليها، كما أن اللوبي الصهيوني يخترق دهاليز سياسات الكثير من الدول الغربية، ولذلك كان رد بعض الدول الغربية والموقعة على ميثاق المحكمة باهتاً متناقضاً، ففي الوقت الذي أكدت فيه تلك الدول احترامها لقرار المحكمة الجنائية الدولية، نجدها -وفي السياق نفسه- تؤكد على أن ما قامت به إسرائيل كان هدفه هو الدفاع عن نفسها.
منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية عام 1948 (وحتى قبلها) كانت القوات الإسرائيلية تعيث فساداً في الأراضي العربية المحتلة قتلاً وتدميراً دون أن تفكر لحظة بعواقب ما تقوم به، فبعد مجزرة جنين التي حدثت العام 2002 قام بعض الكتّاب والمفكرين الغربيين بزيارة مسرح الأحداث، ومنهم الصحفي الإسباني «خوان غويتسولو» والذي صرح قائلاً: «أستطيع أن أعدّد دولاً تمارس الإرهاب ومن هذه الدول إسرائيل»، كما قال بأنه يجب ألا نساوي بين القاتل والضحية، بين القوة المحتلة والشعب الذي يرزح تحت الاحتلال ويقاومه.
لعل أحد الأسباب لرفض بعض المسؤولين الغربيين إدانة قرار المحكمة الجنائية الدولية هو أن مثل هذا القرار سيفتح الباب على مصراعيه لمحاكمة المسؤولين في الدول التي دعمت إسرائيل في تلك المجازر، ولعل أولها الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من أنها ليست عضواً في الاتفاقية الدولية، إلا أنه على الأقل يجب مساءلتها والنظر في الوسائل التي يمكن أن تدفعها للتوقف عن مساندة إسرائيل على هذا النحو المستفز والمخالف لجميع الأعراف والتقاليد الدولية، ومثلما تقوم الولايات المتحدة بإنزال العقوبات على الأفراد والمؤسسات والدول التي تعتبرهم ضد السلم العام الدولي أو المارقين بعيداً عن النظام العالمي، يجب أيضاً فرض عقوبات مشابهة على المسؤولين الأمريكيين الذين تُعتبر مساندتهم لإسرائيل جرماً مشتركاً تسبّب في إبادة شعب بأكمله وعرض أبناءه للقتل والمرض والإصابات الخطيرة، ناهيك عن تدمير كافة المرافق الحيوية التي يعيش فيها وحرمانه من كافة وسائل العيش الكريمة.
لا شك أن قرار اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي قد تكون له العديد من التداعيات الخطيرة على أكثر من مستوى، فطائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي قد لا تتمكن من التحليق بأمان خلال عبورها أجواء الدول الموقعة على الاتفاقية، فقد يتم إجبارها على الهبوط لاعتقال مجرم دولي هو نتنياهو، أو على الأقل قد يتم منعها من استخدام المجال الجوي للدول الموقعة على الاتفاقية، وهو ما يُدخل العالم في أزمات جديدة ساخنة وخاصة مع تصاعد الاحتدام العالمي الذي يوشك أن يتحول لحرب عالمية ثالثة ما بين ليلة وضحاها، وهو ما يؤكد لنا أنه أينما حلّت إسرائيل حلّت معها النزاعات والصراعات، فهى لا تفتأ تهدد السلم العالمي وتتحدى القيم الدولية المتعارف عليها، وهي تستمر في غيها وعدوانها لأنها ترى نفسها فوق المحاسبة والمساءلة.