محمد صلاح
متى يتوقف المهرّجون عن تخريب السياسة والإساءة إلى المعارضة وابتذال فعل الثورة وركوب موجة الأحداث؟ يبدو السؤال منطقياً بعد فشل دعوة أطلقها بعض المتحالفين مع تنظيم "الإخوان" الإرهابي ممن يقيمون في دول غربية، لتحريض المواطنين على الثورة، والخروج إلى الشوارع والميادين، والاعتداء على قوى الأمن والمواطنين الذين يعارضون مؤامرات "الإخوان" وحلفائهم.
حدّد أصحاب الدعوة يوم 12 تموز (يوليو) الجاري موعداً للثورة المزعومة، بعدما اعتبروا أن هذا هو أفضل وقت يمكنهم فيه إقناع المواطنين بالخروج من منازلهم، والاحتجاج على سياسات الحكم، فوجدوا أن المواطنين تهكّموا بالدعوة وسخروا من أصحابها وتعهّدوا بعقاب من يعتزم ارتكاب عمل تخريبي أو الاعتصام في الشوارع والميادين. لكن الأهم أن الدعوة عكست انفصالاً تاماً بين "الإخوان"، وكل هؤلاء الذين يمتطيهم ذلك التنظيم الإرهابي، وبين المجتمع المصري، وعدم اكتراثه للدعوات التي يمكن الجمهور العام أن يقبلها، وانعدام للحس السياسي وتقدير مواقف الأطراف الفاعلة في مصر، خصوصاً أنها ليست المرّة الأولى التي تصدر فيها دعوات كتلك، حتى إن تنظيم "الإخوان" نفسه ترك المهمّة المخزية لحلفائه الذين صاروا ينفّذون ما يريده "الإخوان" ليُظهروا ولاءهم للتنظيم الذي يستغل علاقاته بأجهزة استخبارات غربية في تأمين الإقامات للفارين من مصر والموالين للجماعة.
كان طبيعياً أن يلجأ بعضهم إلى أسهل طريقة للردّ على مؤامرات "الإخوان" وأفعال حلفاء التنظيم بنشر "النظام الأساسي" لـ"الإخوان" الذي يُلزم أعضاء الجماعة تخصيص جزء من دخلهم لصالح الجماعة، وليس الوطن! وأن يستخدم بعضهم أبسط وسيلة لدحض تهكّم النشطاء الذين يمتطيهم ذلك التنظيم الإرهابي بكل إنجاز مصري بالاستعانة بالأرشيف، وإظهار الإعلان الشهير للمرشح الرئاسي في انتخابات سابقة حمدين صباحي، والذي دعا فيه الشعب المصري ليتبرّع بجنيه لتمويل حملته الانتخابية! لكن المسألة أعمق وأكبر من مجرد تبادل حملات التهكّم والسخرية، وردّ الصاع صاعين بين فرقاء السياسة من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو تفنيد ما ورد في خطاب أو بيان أو تصريح، أو إظهار مميزات الحكم أو مساوئ ومخاطر "الإخوان". فالأمر لا يخصّ مصر وحدها، إنما يمتد ليشمل أغلبية الدول العربية التي واجهت سرطان المتأسلمين عموماً و"الإخوان" خصوصاً، ومحاولاتهم ضرب المجتمعات العربية بالتفتيت والتشرذم والتآكل، وعانت موجات البذاءة أو التحقير والاستهزاء.
رحل "الإخوان" عن حكم مصر قبل أكثر من عشر سنوات، لكنهم تركوا خلفهم آثاراً مدمّرة. إلّا أن الناس في مصر ارتاحوا للهزيمة الساحقة للمتأسلمين بمختلف تياراتهم وتوجّهاتهم بعد غياب "الإخوان" عن المسرح السياسي في مصر، وضرب قواعد التنظيم وإبطال خططه في دول عربية أخرى. لكن جاءت الحرب الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ليستعيد المتأسلمون زخم نشاطهم ومؤامراتهم واستغلالهم القضية الفلسطينية ومعاناة الناس في القطاع والضفة والمتاجرة بدماء الشهداء وأنين الجرحى وبكاء الثكالى وصراخ الجوعى والعطشى، وبدأوا في نشر رذاذ "التهريج" الذي لم يعد ينطلي على الشعوب أو يستنشقه البسطاء.
وأياً كانت الأسباب، فإن الواقع يشير إلى أن أعاصير الربيع العربي أفرزت دولاً وقد انقسمت، وأوطاناً وقد تصدّعت، ومجتمعات وقد انقلبت على نفسها. لكن ذلك لم يُشبع المتأسلمين، فالهدف دائماً هو الاستحواذ على السلطة والنفوذ والأموال، فتحول الثوريون المتأسلمون إلى مهرّجين، والهتافات إلى بذاءات، والنضال إلى وبال هدفه أن يطال الجميع.
الملاحظ هنا، أن دعاة الفوضى في مصر الذين يحتمون بإقاماتهم في دول غربية هم أنفسهم الذين خربوا السياسة، وعبأوا منصاتهم بأكاذيب وفبركات من دون نقاش أو تنافس مع قوى سياسية، إنما كان هدفهم دائماً هدم المجتمعات وليس إصلاحها أو تطويرها، والاغتيال المعنوي للرموز وليس نصحها أو تقويمها. هم أنفسهم أيضاً الذين يسخرون من مواقف السعودية ومصر والإمارات والأردن ودول أخرى، من القضية الفلسطينية عموماً والحرب الاسرائيلية على غزة، ويغيّبون كل جهد عربي لإدخال المساعدات إلى الفلسطينيين، أو مواجهة المواقف الأميركية والغربية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وباقي المحافل الدولية، وكل تصرّف أو إجراء أو قرار أو تصريح سياسي، ويضغطون لإلحاق الأذى بمشاعر كل من يؤمن بفكرة أو اعتقاد أو انتماء، ويكسرون حواجز الاحترام واللياقة وحُسن الخُلق، ويضغطون لإطاحة كل مكانة، والاستهانة بأي وقار، وضرب أي قيمة للاحترام، يُلبسون الفوضى ثوب المرح، والانفلات زي المتعة، والجهل ملابس السعادة.
"المهرجون المتأسلمون" يصطادون في الماء العكر والصافي أيضاً، يقمعون المنطق ويستهزئون بالعقل ويطيحون الرزانة. ظهر هؤلاء في ثوب الظرفاء وعديمي المبالاة ودعاة المرح، ليطيحوا كل القواعد والثوابت والأعراف. سلاحهم الضحك والسخرية وسرعة البديهة وحبك الأكاذيب، والبراعة في استخدام التقنيات الحديثة وتطويع الموهبة بالرسم أو التصوير، أو سرد الحكايات ونظم الشعر، أو كتابة القصص وتحويلها إلى شباك تلتف حول الضحية فلا تجد مخرجاً أو معيناً، حيث يخشى النبلاء أن تطالهم سهام التجريح أو شظايا البذاءات.
نجح المهرجون فترةً في مصر وغيرها، ويبدو أنهم حتى الآن لا يصدّقون أن المبالغة في التهريج أفقدتهم القدرة على تحريك الناس. ولا يدركون أن كثرة تهكمهم بالأوضاع في مصر حولتهم من ظرفاء إلى سخفاء. ولا يعرفون أن الناس اندفعوا إلى الشوارع في 25 كانون الثاني (يناير) 2011 ليس استجابة لدعوات الخروج والتظاهر، أو ليكونوا ضمن مفردات حملة الاستخفاف بنظام مبارك فحسب، إنما لأن دوافع منطقية جعلتهم يتدفقون إلى الشوارع ويملأون الميادين. لا يمكن إنكار أن بعض المهرّجين ساهموا أيضاً في إسقاط نظام "الإخوان"، لكنهم يجهلون أن الشعب خرج على حكم "الإخوان"، ليس فقط للخلاص من تصرفات رئيس سخروا منه وظلّت طريقة كلامه مثار جدل ومحل استغراب، فالشعب وجد الدولة في طريقها إلى السقوط، والحدود في سبيلها للزوال، والمستقبل في طريقه إلى الظلام. أما لماذا يصرّ "المهرجون" على مواصلة نشاطهم من دون كلل أو ملل أو يأس؟ فلأن النكتة السياسية اندثرت، والمبدعين رحلوا، والساحة خلت لهم، وهم لا يعملون ولا ينتجون ولا ينشغلون إلّا بالسعي إلى إفشال غيرهم، ونشر الكآبة بالضحك، والإحباط بالسخرية، والنكد بالمزاح والتهريج. أمسكوا بالقفشات وأظهروا العورات واستغلوا فراغاً سياسياً خلّفه ضعف الأحزاب واهتراء النخبة وخذلان النشطاء.
بالنسبة إلى الحكم في مصر، يبدو غير مكترث كثيراً لنشاط "المهرجين"، لذلك يتوجَّه دائماً بخطاب سياسي إلى البسطاء من دون النخبة التي لا تأثير لها سوى مزيد من الدقيق من دون طحن، أو "المهرجين" الذين لا يتركون لأي مسؤول كلمة أو لفظاً أو تصرفاً أو موقفاً إلّا استخدموه لافتعال السخرية والهزل، لنشر النكد والإحباط واليأس، ويبدو أن الناس أدركوا الرسالة فزادوا من معاناة المهرّجين!