علي بن محمد الرباعي
اشتكت أم (أبو زُهرة) له من تعدّي سفانة على شنطتها، وفكهم مفصلات غطاها الحديد، فقال؛ أبشري بالعوض، وامسحيها في وجهي، وما صدقت أنه تجاوب معها؛ فقالت؛ عليّ عن وجهك يا زبيب الغُرزة، كم تمسح فيه لين غدا كما الجُعال المرمّد؛ ولاحظت أن زوجته ساهية؛ فقالت؛ سُرقان أعرقو لأخوالهم؛ مصاصين جُثل الدلال، وشعرت أنها اغتابتهم، فعضّت على ظفر خنصرها الأيمن، ونظرت للسماء وهي تستغفر، وعندما شافت ولدها يضحك ويغمز لزوجته التي لاذت بالصمت، قالت؛ كانوا أهلها يتسرقون حتى أكفان الموتى من القبور، ويتفصلونها ثياب، فقامت زوجة الابن لتخرج وهي تردد؛ يا حُبك إنتي وولدك لتلحاق الناس.
عاد من سوق رغدان بشنطة حديد، منقوش عليها باللون الأزرق (شجر وعصافير)، فدعت حفيدتها (زُهرة) لتنقل معها أغراضها في الشنطة الجديدة. سألتها ما عاد تبغين القديمة يا جَدة؟ فأجابتها؛ خُذيها لك، فأزاحت الغطاء عن الشنطة، وحملتها، وثبتتها في ركن من الجناح، واستخرجت المسحاة والزنبيل من الشقيق، ونزلت الرباع، انتقت لها تربة طينية، وزادت عليها زنبيل دمن، وضعتها في النصف التحتي لشنطة الجَدة، وطلبت من جارتها (مفلحة) تفزع لها بملء كفها بذور ريحان عاميّة، ثم نثرته بين التربة والدمن، وملأت الإبريق من الحنفيّة، ورشته واضعة أصابعها أمام فتحة الإبريق لتخفف وقع الماء المندفع على الريحان، ولم يمض شهر حتى عمّت الرائحة العطرة القرية بأكملها، ولم تنقطع أقدام الرجال والنساء عن بيت (أبو زهرة) يقطفون الريحان المغرهد، ويشمونه ثم يتشهدون، ويتغرزون، ويمضون لحال سبيلهم، وزهرة أسعد خلق الله؛ كونها أدخلت السرور بعطرها على الناس، والكل يدعو لها (الله يغرّزك من ريحان الجنة).
توقّع (شاقي النخر) أن التعبير عن مشاعره لابنة خالته (زُهرة) من المباحات التي تتهاون فيها القرية، وتتسامح معها، فترقبها مع شرقة شمس يوم جمعة؛ وتيقّن أنها سارحة تستقي من بئر السلاطين، عذبة الماء، فتسلبى واندس في الشبارقة النابتة في حرف البئر، ولما ركّبت دلوها، نطّ في القف، فخرعت، وقام يسمّي عليها، ويقول؛ بغيتها مزحة، وكانت المسكينة تتلفت مخافة أن يراهما أحد، ولأن يديها تنتفض، أصرّ على أن يدلى لها، وكلما وصل الدلو رأس البير ينكت نصه ليطوّل مدة الاستقاء، وعندما همّت بحمل قربتها، اقترب منها بجسمه يعننه يشيل عليها، فطنّت بالصايح، ولم ينجح في تدارك الموقف أمام ردود أفعال المزارعين الذين تعالت أصواتهم مستخبرين عمّا حدث، فشرد واندس في دخش تحت شجر التين الشوكي، ولم يكن يعلم أن الكلبة المجريَة مفرّخة جواها، وما أمداه يندس، ويلف عمامته على خشمه، ليتفادى عفن المكان إلا والكلبة مقبلة عليه، ولأن فروخها وراه، شمّتت به.
خرج من التينة مرعوب، ومخمّش ودميانه تعطي من كل مكان، وما وصل البيت إلا والخبر قد سبقه، قال أبوه عدّ عدّ يا العُشر؛ وهو يشهق، ويلجغ طرف عمامته الطبسه، ويردد والله ما كان قصدي إلا أرفع لها القربة، فتناوله وأسنده على الزافر، ولف الحبل حوله، وقتل الجازل، وهو يربطه ونسمته تتقطّع من الانفعال؛ ويسبه ويلبه بكفه؛ (لا أنت راعي فيد، ولا قناص صيد، ولا ساري ليل ولا قطاع سيل، وما يبول في لحيته إلا التيس)، وأمه تتدخل على أبوه وتردد؛ دخيلك جاه ما كفاه، الكلبة شلخت فخوذه وكرعانه، والأب يردّ؛ ليتها كلته وفكتني منه الخنذيل.
سمع (زاهر) شقيق زُهرة بعد شهور، وهو في رأس تنورة، بما جاء وما جرى، فكتب لأبوه رسالة طويلة، وقال فيها؛ رفاقتك ما معهم ضيعة ولا بيعة إلا الهروج الفاضية، بيقعدون يتلحقون أختي بالكلام، وذلحين تأخذ جدتي وأمي وإخوتي وأخواتي وما تثنونها إلا عندي، وتراني أكريت لكم مع رجا وبيوصلكم إلى عندي؛ فالله الله لا يجيني الرد إلا من رأسك إذا توافينا.
خُبث لأبيه ما طاب، ولاحظ العريفة أن جاره ما هوب على خبره، فتكن البراد، ودعاه يأخذ معه فنجال، ونشده، فقال له؛ زاهر استلحقني يطلب نسافر كلنا عنده، فانفرجت أسارير العريفة، وخبطه في فخذه بكفه، قائلاً؛ وشبك تقحط ظهرك، افلح فكّ لك كم يوم وما جاك في وجهي، ولأن العريفة يتمعرف بدع بطرق الجبل (الشينة ما كني سمعت بها ولا اضيق، والسعة فيد المطاليق، واللي تعمعم ما لقي له فالعمى رباح)، ردّ عليه (الله هبى للادمي فكة من الضيق، لا عد أقدامه مطاليق، يا سرع ما تفنى الرغايب والعمر باح) فسلّم في خشمه أعجبه الرد وقال؛ معك يا كبيرنا، شورك وهداية الله.
لم ينم (أبو زُهرة) ليلته بطولها، يسنّدها جبل، ويحدّرها وادي، يتفكّر في مزارعه، وغروسه، والحلال، والمسراح والمراح، بينما أولاده وبناته ما ايسوا بهذه اللفتة الطيبة من شقيقهم الأكبر، وأصبح يشاور زوجته، فشعر أن لسانها همل، فقال؛ صدق من قال؛ دفني فنّ ودي بالدف.
فقدت أمه بسمعها وبصرها، ما يقلعها من بيتها إلا مقدور انكتب وما عنه مهرب، وسألته؛ إنت من عقلك افلح وأخلي بقرتي، وأضافت؛ الله يفقدنيك ما أبزّها شبر عن مسراحي ومراحي، تبغى تموّتني إنت وولدك الساقط وأنا حيّة، وتذكّرت الغنم فقالت؛ وغنمك وحمارتك فين تغديها؟ فأجابها؛ نودّعها عند العريفة، فضمّت الفتحة التي بين سبابتها وإبهامها على براطمها بمعنى؛ امتصوك! وعلّقت؛ سافر إنت وعيالك وأنا وزُهرة بنقعد عند بيتنا لا يموت.
ودّعت (زُهرة) ريحانها عند مفلحة، وباعت الجَدة بقرتها (شِركة) وسلّم أبوها عهدة البيت والوادي كلها للعريفة، وانشغل أخوها بتوصيل كلبه عند رفيقه (عاشق) وركبوا مع رجا في الخمسة طنّ، الجدة والعيال فوق الطبقة، وأبو زهرة في الغمارة، ويمموا شرقاً، وكلما لمحت الجدة، حلالاً على الطريق، انفرطت تبكي وتردد (يا بقرتي بقرتاه) والولد كلما شاف كلباً انتحب على كلبه، وصاح (يا دعمري دعمراه)، والزوجة منقسم همها بين غنمها، والصغار اللي خضتهم الطريق خضّ الشكوة، وأبو زهرة مرتكي على شماغه التي وضعها تحت كوعه اليمين، ورأسه بادي من شباك الشاحنة، ويبدع قصايد والسواق يردّ (لي صاحب كم لي اصنع به ولا يتصنعا، يا صاحبي لا تزيد المحقرة مير كانا، الا تذكرتكم لو كان في مصر فزيت، ما دار بيني وبين احبيّبِي طال عتبه؛ يقول حدك من الباحه ودار الخويتم، والشرط بيني وبينك لا تعدى شفا فيق، أموت في نظرة المحبوب واهداب عينه).
أنست المدينة (أبو زهرة) الديرة ومن فيها، وتزوّجت زُهرة من صاحب مال، وتغيّر الحال، وماتت الجَدة بعد وصولهم بشهر، والورعان كملوا دراستهم، وما عاد يسمعون عن أبو زهرة إلا في الصيف.
ولما يئست (مفلحة) من عودة صديقتها، حملت الشنطة بريحانها وألقتها في بئر مهجورة، وكلما قالت أمها؛ أشمّ ريحة دخّة يا بنت؟ تردّ عليها؛ عشان ريحان زُهرة مات.