عبدالله خلف
أمَّم سعد زغلول، الكثير من الامتيازات التي كانت بيد الإنكليز، وثار الشعب في كل مكان من أرض مصر، وارتفعت الأصوات الوطنية في الأزهر والمساجد والمعاهد العلمية حتى رفعت بريطانيا الحماية عن مصر سنة 1922، مع إبقائها على امتيازات أخرى كالإشراف على السودان ومرابطة قواتها في السويس.
وأصبح في تلك الفترة حفيد الخديوي إسماعيل، فؤاد الأول، مَلكاً على مصر والسودان...
وكان الملك فؤاد، وطنياً، تعلّم في بريطانيا وتخرّج في كُليتها الحربية، ترأس اللجنة التي قامت بتأسيس الجامعة المصرية، فأطلق عليها اسم جامعة الملك فؤاد، وكان مثقفاً ويجيد التحدث بالألمانية والفرنسية ولكن قوة الإنكليز وجبروتهم وتدخلهم في شؤون البلاد بالمناورات ودسائس القصر وما لهم من عملاء ووجود الجيش البريطاني كان يحدّ من تحرك الملك ولا يسمح له بالتغلغل في أوساط الشعب إلا بحدود ترسمها السفارة البريطانية.
وقبل سنة 1930، كانت القومية التي يرفع شعارها حزب الوفد، هي قومية مغلقة كالقوميات الأوروبية بنطاق الدولة المصرية.
وبعد عام 1930، بدأت فكرة العروبة تشيع بين المثقفين وتدعم الوطنية المصرية ضد القوى الأجنبية الطامعة بمصر وخيراتها.
وكان معظم المثقفين من خريجي المعاهد الدينية والأزهر، وكانت تتغلب عليهم الشعارات الدينية ووحدة الإسلام ضد (الكفار) الغربيين حسب تصورهم في ذلك الوقت ولم تتجذّر بعد فكرة القومية العربية إلا بعد حين.
إن الشعور القومي كان متأصلاً في نفوس أفراد (الضباط الأحرار) كتنظيم سري وطني يتعامل أفراده بما تصدره مصر ودول عربية كالعراق وسورية ولبنان من كتب سياسية تطالب بتحرير البلاد العربية من الاستعمار الأجنبي وأكثرهم حماسة هو جمال عبدالناصر، القادم من قرية (بني مُر) وسكانها المتحدرين من قبيلة عربية نزحت من قلب شبه الجزيرة العربية كان يمتاز أفراد هذه القبيلة بالشهامة والنخوة والحمية، كما هي في معظم صعيد مصر، وعدم سكوتهم على الضيم والقهر يسارعون لنجدة من يستجير بهم ومساندتهم في القتال.
يشير (الكتاب الذهبي، للثورات الوطنية في المشرق العربي) لمنير الريس، حادثة تنمي إلى أن الشعور القومي عند عبدالناصر، كان صادقاً وقديماً ولم يكن طارئاً بعد الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956، من قبل الإنكليز والفرنسيين وإسرائيل، وتفاعل العرب معها مؤازرة لمصر وقائدها عبدالناصر، جاء في الكتاب، بالصفحة السابعة: «أن الضباط الأحرار في مصر كانوا يريدون في عام 1941 - قبل أحد عشر عاماً من الثورة في مصر - أن يلتحقوا بثورة العراق ضد البريطانيين وأن جمال عبدالناصر، قد أرسل باسمهم كتاباً إلى الدكتور محمد حسن سلمان، وزير المعارف في حكومة رشيد عالي الكيلاني، يطلب منها أن يهديهم إلى الطريق التي يستطيعون بها الالتحاق بالجيش العراقي الثائر، تدفعهم إلى ذلك عروبتهم على رغم ما يعرفون من أنها كانت حرباً غير متكافئة، لأن البريطانيين لم يلبثوا في الأسبوع نفسه أن ضربوا الثورة وأعادوا الأمير عبدالإله، وصيّاً على عرش العراق».
الإحساس القومي كان ولايزال متأصلاً في الشعب المصري وما نراه في الصحافة والمحطات من تجاوبهم في مساندة الشعوب العربية التي تتعرّض للمظالم الإسرائيلية والغربية.
وجاء في الكتاب الذهبي، أيضاً، ما يعبر عن مشاعر جمال عبدالناصر، ورفاقه نحو العرب والعروبة، يقول في الصفحة الثامنة:
«إن عبدالناصر ورفاقه حاولوا عام 1947 أن يلتحقوا بقوى (جيش الإنقاذ) السوري لمقاتلة اليهود في فلسطين، فلم يمنعهم من ذلك إلا انحراف الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس» ويمضي صاحب الكتاب معقباً، هنا - أدركنا لماذا كانت ثورة 23 يوليو 1952 ذروة التّفتح القومي».
الشعوب العربية كانت غير مدركة للأحداث العالمية وما جرى من المناورات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى من تحالفات ضد العرب خلافاً للعهود التي أطلقتها بريطانيا وحليفتها فرنسا من منح الدول العربية استقلالها بعد خلاصها من الهيمنة العثمانية.
دخلت بريطانيا في مفاوضات مع فرنسا للاتفاق على احتلال الدول العربية التي كانت تحت النفوذ التركي وذلك في معاهدة «سايكس بيكو» فاحتلت العراق وسورية ولبنان والأردن، وكانت المعاهدة سرية وقد أُبرمت في 1916، ولم تعرف إلا من خلال الثورة البلشفية التي أعلنت عن نصوصها سنة 1917، وفي هذا العام المشحون بالمناورات والتواطؤ عُقد «وعد بلفور» السّري في 2 نوفمبر 1917، لمنح الصهيونية العالمية فلسطين.
عُرف الوعد باسم وزير الخارجية البريطانية آرثر جيمس بلفور، في رسالة بعثها اللورد روتشيلد، يُخبر فيها أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية.
الشعب العربي لم يعرف كل هذه المناورات لا في المناهج المدرسية ولا في الكتب المتوافرة... عرفها جلية من خُطب الرئيس جمال عبدالناصر، والصحافة المصرية، ومن إذاعة صوت العرب التي نشرت الوعي القومي، وكان كل ذلك صائباً وصادقاً ولكن الهزائم العسكرية حجبت الرؤية بستار أسود وصار كل ما يصدر عن الإعلام العربي ليس له تأثير وبعد الناس عن الفكر القومي.
وعرف العرب بعد هزيمة 1967 أن إسرائيل تحاربهم بالقوى الأميركية والأوروبية فلا يمكن أن تهزم من بعض الدول العربية إلا بمساندة من الدول العظمى.