وأنا أقرأ حواراً منشوراً على موقع «رصيف 22»، أجرته «هدى المحيثاوي» مع المترجمة والأديبة اليونانية بيرسا كوموتسي، استعدت ذكرى قديمة، حين أقمت، ذات زيارة إلى عاصمة اليونان، أثينا، في فندق تديره سيدة، ما أن أعطيتها جواز سفري لإتمام إجراءات التسجيل، ولاحظت أني عربي، حتى راحت تخاطبني بلهجة مصرية واضحة، حتى خُلت في البداية أنها مصرية، لولا لكنة أجنبية في كلامها. لا أذكر إن كنت قد سألتها، ساعتها، من أين تعرف اللهجة المصرية، أم أنها من بادرتني بالقول: أنا مولودة في الإسكندرية، وعشت فيها طفولتي وبدايات شبابي، وتحدثت بالكثير من الحنين لذكرياتها هناك، وعن نقمتها على السياسة التي اضطرت أبناء الجالية اليونانية لمغادرة الإسكندرية.
مثل السيدة مديرة الفندق في أثينا، وُلدت بيرسا كوموتسي في مصر، ولكن ليس في الإسكندرية، وإنما في القاهرة، ما أوجد لديها شغفاً بمصر، والثقافة والأدب العربيين، فاتجهت، كما قالت هدى المحيثاوي في تقديمها للحوار، نحو دراسة الآداب في جامعة القاهرة، وكرّست وقتها لإماطة اللثام عن حياة اليونانيين الذين عاشوا في القاهرة، ولرَسمِ جسرٍ بين الثقافتين، وتفيدنا مُجرِية الحوار أن في رصيد كوموتسي سبع روايات تدور أحداثها جميعها في مصر، منها «الضفة الغربية من نهر النيل»، و«الإسكندرية في طريق الغرباء»، و«سنوات شبابي الأولى، متعة عمري»، و«في شوارع القاهرة، نزهة مع نجيب محفوظ»، التي تستحضر فيها سيرة حامل جائزة نوبل للآداب.
يمكن أن نعدّ هذه الأديبة نموذجاً يُعتدّ به للأدباء الذين نشأوا وعاشوا على تخوم ثقافتين ولغتين، من دون أن يشعروا بالتمزق، أو الضياع، أو الحيرة إلى أي من الثقافتين ينتمون، أو يميلوا إلى المفاضلة بينهما، بل إنها تحدثت باعتزاز وفخر عن كونها ابنة لثقافتين غنيّتين، اليونانية والعربية، نهلت من ينابيعهما.
ومن حيث لم تُرد فإن هذه الأديبة، كما نستشف من حوارها مع المحيثاوي، تحملنا على التساؤل لماذا لم تحضر اليونان في أدبنا العربي، بصفتها آخر غربياً، كما حضرت فرنسا أو بريطانيا مثلاً. توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، تناول حكاية الشاب المصري محسن مع سوزي الفتاة الباريسية ذات التكوين المختلف، وفي «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس دارت الحكاية بين طالب لبناني في «السوربون» وصديقته الفرنسية جانين، وفي «قنديل أم هاشم» تناول يحيى حقي حكاية المصري إسماعيل طالب طب العيون في إنجلترا، وزميلته الإنجليزية ماري، وكان آخرهم السوداني مصطفى سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، وزوجته البريطانية جين موريس.
في المقابل تكاد اليونان، كفضاء للعلاقة مع الآخر، تغيب عن أدبنا، فيما كان طه حسين يرى أنه لم يكن أقرب إلى الثقافة العربية من الغرب سوى الحضارة اليونانية.