: آخر تحديث

مزيفون.. بلا حدود

11
10
11

تلعب وسائل الإعلام العالمية التي تُدار من غرفة قيادة واحدة دوراً مهمّاً في التأثير على الوعي الجمعي العالمي، من خلال أسلوب يجعلك لا ترى إلا ما تريد، وهو أسلوب قوي في قيادة الرأي العام، ويتم ذلك بوضع خيارات وهمية تُقيد تفكير الطرف الآخر.. بينما تُوهمه أنها تترك له حرية الاختيار، وهي غالباً ما تضع الحدث في إطار يدعم القضية التي تريدها.

وهذا الأسلوب هو المُتبع في نظرية «غوبلز»، وزير الدعاية الألماني إبان حكم هتلر، وهي طريقة تهدف إلى السيطرة على العقول من خلال نظرية التأطير.. (Framing Theory) وتعريفها هو أن يعمد الكاتب أو الصحفي إلى إبراز جوانب من القصة والتركيز عليها وإغفال أو تجاهل أو طمس أجزاء أخرى بما يتوافق مع أهوائه وميوله والأولويات لديه. كمثال: نذكر حادثة في حرب العراق وهي معركة المطار.. حيث قامت وسائل الإعلام بتعبئة الطرفين على أنها المعركة الحاسمة، فأصبحت وحدات القوات المسلحة العراقية وجميع الناس يترقبون هذه المعركة.. وعندما سقط المطار شعر الجميع أن العراق كله سقط.. بالرغم من أنها لم تكن الحاسمة في ذلك الوقت، ولم يسقط سوى المطار، وكان المقصود إحباط الروح المعنوية.

والآن تلعب وسائلهم الإعلامية نفس اللعبة.. وهذا أسلوب واحد من عدة أساليب تجعلك لا ترى إلا ما تريد هي. ويُعتبر تزييف الحقائق أهم ما في دروس «غوبلز» التي أتقنتها الصهيونية واعتمدتها تحت شعار «اكذب واكذب حتى يصدقك الناس.. واكذب أكثر حتى تصدق نفسك، وإن لم يصدقك الناس.. سيبقى شيئاً منها عالقاً في الأذهان». ورغم أن النازية اندثرت إلا أن تعاليمها بقيت وتطورت.

نحن نعرف من يكذب ومن يزيف ونظن أنهم سيخجلون عندما يُواجهون بالحقيقة، لكنهم يستمرون ويُجيدون اللعب بالكلمات حتى تضيع الحقيقة وسط الأصوات العالية المُمولة بأحدث التقنيات لنشر التضليل.. الإعلام الذي كان يَسخر من «غوبلز» ونظرياته يَسكت اليوم ولا يُناقش أمام سطوة وسيطرة الزيف عليه.

تعلمنا في كتب الإعلام أن وضع الحقيقة أمام أعين الناس واجب أخلاقي.. وواجب الإعلامي نشر الخبر من دون إغفال وبلهجة مُحايدة، لكن تبقى تلك الدروس حبيسة الكتب وعندما يخرج الطالب إلى عالم الواقع يكتشف أن الإعلام في حقل الممارسة لا يشبهه في صفوف الدراسة.

اليوم تضيع الحقيقة ويتم شراء الضمائر لتردد مع السرب نفس الأكاذيب التي تعرف أنها زائفة. وهكذا تعمل آلة الإعلام العالمي لتنقل المُتلقي من كونه إنساناً ذا عقل يُفكر ويُحلل إلى ببغاء أعمى يردد ما يَسمع. والمثال الأوضح أمامنا اليوم هو عملية «طوفان الأقصى» التي استغلتها الدعاية الإسرائيلية منذ الساعات الأولى لربطها بالإرهاب وتزييف الحقيقة، بحيث جعلت الناس ووسائل الإعلام العالمية تتبنّى الروايات المُرعبة عن قطع رؤوس الأطفال واستهداف المدنيين واغتصاب النساء وكل تلك الادعاءات التي تبين لاحقاً أنها كاذبة حيث أخفقت في تقديم أدلة عليها. ورغم أن وسائل الإعلام العالمية اضطرت لحذف وتعديل التقارير التي سبق أن روجت لها لكنها بقيت حريصة على إذكاء ما بقي منها في الأذهان.

ومع زمن التواصل الاجتماعي تتكثف جهود المُزيفين في عملية التكرار لتزعزع قناعة من يحاول أن يميط اللثام عما يدور خلف كواليس الخبر. فهذا المُتلقي المُشكِك في صحة الخبر يتعب وهو يحاول نشر الحقيقة وقد يتعثر ألف مرة قبل أن يعود إلى السرب، وإما أن يكون ضمن الكورس المُغرد أو يعود إلى الأكثرية الصامتة. قد يبدو المشهد مظلماً لكنه واقعيّ، ولمواجهته لا مفر من الاعتراف به.. فكم من محطات قدمت نفسها بصورة مِهنية واستطاعت أن تكسب ثقة المُتلقي، ثم ما لبثت أن أخذت عقله إلى جهة بعيدة عن مَسارها المُتوقَع.. المشكلة أن صوت الحقيقة يبقى دائماً مُنخفضا أمام الضوضاء التي يثيرها المُزيفون. وما كانت مأساة غزة إلا حكاية حقيقة تسعى إلى طمسها أكاذيب طغت على وسائل الإعلام العالمية وامتدت لتعمي حتى المنظمات الحقوقية عن أهم مبادئها الإنسانية.. وأمام كل محاولة لوضع الحدود لهذا التزييف المُبرمج نَجدهم يُواجهون بالضغوط والابتزاز.. لكن الشعوب الصامدة تحت نير الظلم لا تسكت تستمر في صوتها ولو بدا ضعيفاً وفي محاولاتها اليائسة لاختراع الأمل..

التاريخ يقول إن مؤسس التزييف «غوبلز» فشل، فهل يُعقل أن ينجح التابعون له؟ وهم وإن كانوا قد حققوا نجاحاً إعلامياً لكنهم سقطوا في امتحان الأخلاق والإنسانية الصورة التي نجحوا في تزييفها سيزول عنها الزيف يوماً ما.. تماماً كما زال زيف هتلر.. ومن يثق أنها ستدوم مستقبلاً يمشي عكس تيار النظام الكوني.. النظرية التي انتهت بالفشل تاريخياً لن تنجح مستقبلاً وإن بدا عكس ذلك.. الكذب حبله قصير مهما سُخّرت له من أموال.. قديماً قيل «الحرب تبدأ بالكلمات وتستمر بالطلقات.. وتنتهي بالكلمات». وبين الكلمة والرصاصة تُشكّل الدعاية الكاذبة أداة فاعلة في تضليل الرأي العام.. وهذا ما يفسر أن المُراسلين الباحثين عن الحقيقة مُنعوا من اجتياز الحدود.. وحتى الأطباء المتطوعين طردوا خارج الحدود.. ولم يبق في الساحة سوى مراسل محلي برتبة أسير خلف الحدود، ومراسل عالمي برتبة مزور.. بلا حدود.

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.