: آخر تحديث

عشب محمد العامري

26
19
20

بعض القراءات لأعمال أدبية، وتحديداً الشعر، كما لو أنها تسبب نوعاً من حكّة لذيذة في باطن اليد هي حكّة القشعريرة التي تحملك على الكتابة وتحرّش عليها. كما لو كان هذا التحرّش غريزياً، تماماً، مثلما يتوجه الطفل إلى أمه من دون خبرة مسبقة..

من دون خبرة نقدية قرأت مجموعة «عليه العشب» للشاعر محمد العامري، والعامري أكثر من واحد: شاعر، رسّام، نحّات، ناقد فني تخصّصي، وناشر انتقائي، وقبل هذا وذاك، محمد العامري حيوية إنسانية صافية، وربما لهذا السبب يكتب بالعشب. برائحة العشب المبلل بقطرات الماء بعد وجبة مطر صباحي حنون.

ذلك، إذن، هو سبب تلك الحكّة في يدي، وقد هدأت تماماً بعد قراءة قصيدة واحدة مكوّنة من مئة مقطع شعري قائمة على الذاكرة، والمكان، والصور، ونبات الأرض، بل وممتلكات الأرض مثل القصب، والليمون، والفرفحينة، والفيجن، وأشياء أخرى أشبه بالظلال، بل هي الظلال، والماء، والضوء، وإلى ما لا نهاية من عائلة العشب.

في تقديمه المقتضب لترجمة أراغون إلى العربية (مجنون إلزا) يقول د. سامي الجندي: «ادع هذا الكتاب من دون تقديم. ادفعه إلى القارئ عاري الرأس لأن كل وسيط بينه وبين القارئ يظل غريباً عليهما مهما تفنن في طريقة التدخل..».

تذكرت هذا الكلمات القليلة لسامي الجندي وأنا أقرأ محمد العامري، فلست وسيطاً بالمرة، ومن طبع الوسيط ألا يتدخل أيضاً في أي مكان من العمل الفني.. ثم، كيف يتدخل إذا كان الشاعر، وهو هنا محمد العامري، قد أعطاك عملاً فنياً واحداً في صيغة ثقافية واحدة، ولم أقل إنه عمل فني مركب من الشعر والرسم، ذلك أن (التركيب)، أو مفهوم (التركيب) هو أحياناً صيغة تلفيقية، هجينية، في حين أن العامري القليل القوافي في هذه المجموعة يذوّب الشعر في الرسم أو يزوّج الرسم للشعر، وفي اللوحات المرسومة بالأبيض والأسود للعامري في قلب قصيدته هذه نشاهد كائنات بشرية، لكنها بأربع أرجل، وست أصابع، ووجوه قويّة بارزة ولكنها غامضة وبعيدة، تصلح لتخطيط أولي لعمل نحتي، ثم تلك الكائنات البشرية الواقفة عادة، المواربة، المخطوطة، والمنقّطة، والمغطّاة بالحبر وما يشبه الضباب الغامق، والمسترسل في غموضه الخطوطي الغنائي، الذي يتماهى مع غنائية الشعر.

في قراءتي لكتاب واحد للعامري، ربحت رهانين، رهان الرسم، ورهان الشعر. والكتاب العشبي الواحد هذا هو في حقيقته معرض لوحات، وفي الوقت نفسه هو رقيم نصوص. مئة نصّ ونصّ. وكلما ضاقت الأرض على العامري صار سحاباً، وهو على (قدِّ) قلبه يحب، والحب يسيل في قصبة الناي، وكلما رأى حصاناً يتصبب عرقاً ينشّفه بالحبر. حبر الرسم، وحبر الكتابة.

.. وأكثر من سبب لتلك الحكّة التي لا تهدأ إلّا بالكتابة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.