: آخر تحديث

بين الخلاف والاختلاف

19
19
22

دأب الإنسان منذ القِدم على التعريف بنفسه أو تمييزها، بابتكار علامات ينقشها على جسده أو يوشمه بها، أو بواسطة حُليّ ومعادن ثمينة، فلجأ إلى الأقراط في الأذنين أو فتحتي الأنف، أو الأساور الملونة، يضعها في ذراعه للرجال وفي الكاحل للنساء، أو ما سُمّي بالخلخال. كما لجأت بعض القبائل إلى رسم خطوط على وجوه أبنائها وبناتها، إضافة إلى القبّعات المستديرة والمستطيلة والمخروطية الشكل، ناهيك عن إطالة الشعر أو حلاقته كُلّياً. وقد لجأ أيضاً للتعريف بنفسه عن طريق الملابس الطويلة أو القصيرة.

وفي عصر العبودية وتجارة الرقيق قادت قسوة الإنسان نفسه إلى ختم (العبيد) بأختام مختلفة، فكل تاجر له ختمه الخاص، وتلك كانت أقبح وسيلة للتعريف بالملكية، إذ ساوى تاجر العبيد الإنسان بالحيوان، حين كان يلجأ إلى ختم المواشي بكيّها بالأختام المجمرة. وحين نزلت الكتب السماوية، بات الإنسان يميّز نفسه برموز دينية، مثل الصليب للمسيحيين، والهلال والحجاب للمرأة والثوب القصير واللحية الطويلة للرجل لدى المسلمين، والكيباه أو الكبة لليهود، وهي الطاقية المستديرة التي يضعونها على رؤوسهم، وبعض المذاهب اليهودية يطيل أفرادها شعورهم ويجدّلون الخصلات. وكانت تلك الرموز هي أوضح علامة تميّز المسلم عن المسيحي أو اليهودي، وتراجع استخدامها مع الحروب الدينية والمعارك العقائدية، قديماً وحديثاً. وفي فترات تخللت هذه الأزمنة، نشأت مجموعات بشرية مثل (الهيبّز) الذين أرسلوا شعورهم، ونادوا بالعودة إلى الطبيعة، وهناك الغلاة من أنصار الطبيعة الذين نادوا بالتخلّص من الملابس ضمن مجموعات تخصّهم وحدهم.

وقاد الاعتزاز بالدين أو المذهب والإيمان المطلق بهما، إلى حروب بشرية، نتيجة اعتقاد كل دين بأنه الأصح والأجدر بالاتباع. ولم تتوقف النظرة هنا، بل تم تصنيف أصحاب الديانات والمذاهب من قبل البعض، وفق معايير فلسفية، فالإنسان الغربي هو المتحضّر والمدني والتائق للحرية والرافض للعبودية، ونظّر في هذا فلاسفة مثل روسو، وهيجل، بل سبقهم أرسطو، في التمييز بين الشعوب، حين قال بأن اليونانيين هم أسياد ولا يجوز استعبادهم، وهؤلاء الفلاسفة، صنّفوا الشرق على أنه مطبوع على العبودية، ويتقبّلها ويتعايش معها، لهذا، ساس ملوك وسلاطين وأباطرة الشرق شعوبهم بالقوة، وليس بالعقل والمنطق، وأطلق الفلاسفة المذكورون على هذه النتيجة أنها محصّلة لحضارة النهر، والعلاقات الزراعية بين الإقطاعي والفلاحين والعمال، وذكروا أن بعض الشعوب كانت تسجد للإمبراطور والملك، لاسيما في آسيا الوسطى، بل ذكر بعض المفكرين أن أحد الأمراء ادعى الألوهية، وهو مبحث طويل ومعقّد، تناوله من تحدثوا في فلسفة الطغيان، وطبائع الطغاة.

لقد تطورت البشرية، ووضعت قوانين وبروتوكولات للحرية، وأهمها الحرية الفردية، أو حقوق الإنسان، وتركّز كثيراً على حقوق الفرد، وتمنحه مساحة شاسعة في حرية الاعتقاد والتعبير والرأي والمأكل والمشرب والملبس، ما أثار حفيظة المجتمعات المحافظة، بسبب تضارب تلك الحقوق مع دياناتهم ومذاهبهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، فكتبوا على سبيل المثل، حقوق الإنسان في الإسلام، أو حقوق الإنسان في المعسكر الاشتراكي، مقابل حقوق الإنسان في الدول الرأسمالية، وهكذا، أصبحت حقوق الإنسان مثار جدال ونقاش، ويعتقد البعض أنها تمس سيادة بعض الدول.

وبناء على ذلك، تفترض حقوق الإنسان حرية العبادة، وحرية ارتداء الرموز الدينية، من صليب وحجاب وكيباه، فلماذا لجأت بعض الدول (المتحضّرة) إلى حظر ارتداء هذه الرموز، خاصة في المؤسسات الرسمية الحكومية والمدارس، وتبعتها بعض المؤسسات الخاصة والمؤسسات التعليمية، وهذا ما أثار أتباع هذه الديانات وسبّب هرجاً ومرجاً في المجتمعات، التي تدّعي حرية الإنسان وحقوقه، وتصاعد الحديث عن العنصرية، والكيل بمكيالين، والإسلاموفوبيا، وقد ازدهرت هذه المناقشات إبان ما أُطلق عليه (الربيع العربي).

وعلى ذكر مصطلح «الإسلاموفوبيا»، جاهرت إحدى الدول مؤخراً بحظر الحجاب، وسنّت قوانين لذلك، وقال لي أحد السياح إن إحدى الدول التي زارها تتشدّد في منع الحجاب، في مقابل إقدام دولة في القارة ذاتها على تشريع زواج المثليين. وهو تناقض صارخ جداً، فهنا يحترمون الاختلاف وهناك يحاربونه.

ونحن نتساءل بدورنا، لو كان الحجاب موضة تتبع دور الأزياء، كيف كانت بعض المجتمعات ستتصرف معها؟ طبعاً، على الأرجح، لن تتدخل السلطات ولا المشرّعون في الأمر، لأنه حقّ من حقوق الإنسان أن يرتدي ما يشاء، وكيفما يشاء، بينما حين يعكس الحجاب اتجاهاً فكرياً أو حضارياً أو دينياً ما، فإنه يثير الرعب والقلق والريبة، لأن النظرة المترسبة عند المشرّع (المتحضّر) لا تختلف عن نظرة المستشرقين عن المجتمعات الشرقية، مع اختلاف مثير للاستهجان. المستشرقون القدامى رسموا صورة تشبه ما جاء في كتاب ألف ليلة وليلة للشرق، بينما يرسم المستشرقون المعاصرون صورة مختلفة تمزج بين التطرف وحب العبودية، ويتم رسم السياسات بناء على هذه القناعة الغريبة.

لقد بدأنا برغبة الإنسان البدائية بتمييز نفسه والتعريف بها، وانتهينا برغبة الإنسان (المتحضّر) بإلغاء فكرة التمييز، رغم أن فلسفة النظام العالمي الجديد، وما اخترعه من (عولمة) تشدّد على احترام الخصوصيات الثقافية، وتحترم ملامح الشخصية الوطنية، فهل تسير المجتمعات نحو التقدّم والتطور، أم أنها تتطوّر تقنياً فقط، وتتراجع إنسانياً وقيمياً؟

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.