ما يَدْأَب عليه قسمٌ من النّخب الثّقافيّة العربيّة من كيْلِ المدائح للغرب ومعارفه وقيمه الثّقافيّة، من غيرِ شُبْهةِ نَقْدٍ لِمَا يَفِد من ذلك الغرب من أفكارٍ وقيمٍ قد لا تكون مطابِقة، هو عينه ما دَأَبَ عليه ويدأب جمهور عرمرم من الباحثين والكتّاب العرب من تعظيمٍ للماضي العربيّ الإسلاميّ ولتراثه الثّقافي والفكري من غير حِيطةٍ أو رِسْلٍ في إطلاق أحكام التّعظيم تلك. أما من يدعو هذا الجمهور العريض (من دعاة الأصالة والتّمسُّك بالموروث) إلى وضع ذلك الماضي ومنظومات معارفِه في ميزان النّظر الفاحص، قصْد تَبيُّن وجوه الحُجِّيّة فيها وبيان حدودها التي رسمتها لها شروط إنتاجها، فلا تعدو دعواه - عند مَن تُخاطِبه من الأصاليّين - أن تكون دعوة رهطٍ من المُتَأَوْرِبين أو المتغربِنين ممّن انفصلوا، رُمَّةً، عن جذورهم الحضاريّة والثّقافيّة فابتلعتهم ثقافةُ الغرب وآراء مفكّريه وصاروا لها تبعاً. على أنّه من الإفاضات أن يقال، هنا، إنّ النّظر إلى تلك الدّعوى هكذا كافٍ وحده كي يَقْطع دابرَ أيّ نقد!
مُبَجِّلَةُ الموروث جمهورٌ ثقافيٌّ رديفٌ في سوء السّيرة المعرفيّة لمُدبِّجةِ أُمْدُوحات الغرب؛ كلٌّ منهما غارق في يقينيّات ميتاتاريخيّة يعيد لَوْكها باللّسان والقلم وكأنّها من البداهة بحيث لا تحتاج إلى استدلال! لا يعرف أهل الأصالة من النّقد والتّشكيك إلاّ ضرْباً واحداً وحيداً: نقد الغرب وما يوجَد فيه ويَفِد منه من أفكار ومؤسّساتٍ ومعارفَ وقيم! أمّا الموروث - في المعظمِ الغالب منه – فَمَقامُهُ في الوعي والنّفس محفوظٌ والتّبجيل والتّعظيم له واجبٌ على بني الجِلْدة لا محدود، ونقْدُهُ - كُلاً أو أبعاضاً - من المتطاولة عليه مرفوضٌ ومردود. وأنا لا شأن لي، هنا، بمن يبغي بالموروث شرّاً معلَناً: مَحْواً وتصفيةً أو حطّاً وتحقيراً، حين آخُذُ على مُبجِّلته تبجيلَهم له وإباءَتَهم تناوُلَه بالنّظر النّقديّ؛ إذْ لستُ في عِداد جمْعِهم العَدَميّ تجاه الماضي وما ينحدر منه، والعدوانيّ تجاه الأنا الحضاريّة العربيّة الإسلاميّة، ولا أشاركهم النّظرَ بعين الآخَر إلى هذه الأنا؛ إنّما شأني أن أقول، وأكرّر القولَ، إنّ أقصر السُّبُل إلى الحطِّ من تراثٍ أو القدْحِ فيه، أو عَوْنِ المعتدي المتربِّص به على العدوان عليه، لَهُوَ تقديسُ ذلك التّراث على النّحو الذي يرفعه فوق معدّل العقل الإنسانيّ، والإصرارُ المَرضيّ على النّأي به عن كلّ مساءلةٍ علميّة تتغيّا إحسان قراءة معطياته.
بمقدار احتياج الماضي والموروثِ الثّقافيّ منّا إلى الاعتراف به ميراثاً، والاعتزازِ به مورِداً في تكوين شخصيّتنا الجمعيّة، وتمتين وشيجة الاتّصال به، في مقابل مسلَكٍ فاسدٍ يأتيه تجاهَهُ مَن يعالنونه الاعتراضَ والإنكار، يحتاج منّا، بالموازاة، أن نعيد قراءته في ضوءٍ جديد: في ضوء ما تتيحُه لنا موارد معرفيّة ومنهجيّة جديدة من إمكانات هائلة لاِسْتبار غَوْرِه وإحسان فهْم نظام المعرفة فيه؛ وفي ضوء صلاته بالواقع: بواقعه الذي وُلِدَ فيه وبواقعنا المعاصر وأسئلته وهواجسه وحالاته. ما أغنانا عن بيانِ ما يَسَع مثل هذا النّظر النّقديّ، المسلَّح بأدوات المعرفة، أن يقدّمه من إمكانات أمام تمتُّع ذلك التّراث بفرص استقبالٍ متجدِّدٍ له من قِبل أجيالٍ جديدة من القرّاء، ومن إمكانات لتنمية مكانته في البناء الثّقافيّ المعاصر. إنّ إعادة القراءة تلك ذاتُ قيمة عالية في مضمار إعادة بعْثِ الحياة في تراثٍ أُسيءَ إليه من بَنيه: الهَجّائين منهم والمدّاحين على السّواء، ولكنّها ذاتُ عوائد أجزل على صورته لأنّها الوسيلة الأفضل إلى إعادة الاعتبار إليه وإلى فرض احترامه.
ليس من شكٍّ في أنّه ما من ثقافةٍ تملك أن تتخلّى عن موروثها، على نحو ما يعتقد كثيرٌ من المصابين بالدّاروينيّة الثّقافيّة، ولا أن تستغنيَ عنه لمجرّد أنّ شروطها التّاريخيّة والمعرفيّة تغيّرت. الأَصْوب، هنا، أن يقال إنّ حاضر أيِّ ثقافة، كما مستقبلُها، يستدعي، حكماً، ماضيها في محاولتها الصّعودَ لا العكس، ولنا في الثّقافة الأوروبيّة الحديثة المثالَ والأُسوة في ذلك؛ فلقد أقامت شرعيّة ميلادها النّهضويّ على الميراث اليونانيّ- الرّومانيّ القديم ولم تضرب به عرض الحائط بتعلّة قِدَمه: كما يفعل حداثويّون عرب لا يفهمون الحداثة إلا بما هي محْوٌ تامّ لِمَا قبْلها! ولكن، على فكرة وجوب تمسُّك الثّقافة بموروثها أن تبرهن، في الآن نفسِه، على حُجِّيّتها ووجاهتها من طريق وضْع ذلك الموروث في ميزان الفحص العلميّ حتّى يصير في الإمكان أن يُبْنَى على مكتسباته، لا من طريق تنزيه أفكار القدامى عن كلّ تفكيرٍ نقديّ فيها!
إنّ أسوأ ما يمكن أن تُصاب به ثقافةٌ هو أن تتوقّف عن الإنتاج والإبداع الفكريّ وتتحنّط، فلا يعود لها من فعلٍ غير الاجترار والتّكرار والشّرح والاختصار! يحصل ذلك، عادةً، حينما يكتفي متأخِّروها باستهلاك ما أبدعه متقدّموها من غير إضافةٍ أو زيادةٍ أو نَخْل! هنا، في مثل هذه الحال، تنشأ المفارقةُ الصّارخة: يموت المحدَثون وتعود الحياةُ إلى الأقدمين! يموت هؤلاء حين يصبحون عدماً أو في حُكْم العدم، فيما يعود الأمواتُ إلى مسرح الحاضر أحياءً يتكلّمون وحدهم ويكتبون ويُفتون ويضعون القواعد والأصول على ألسنة مَن يردّدون معارفهم! هذه هي اللّحظة التي تذهب فيها الثّقافةُ إلى حتفها!