عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، ويُثِيبُ عَلَيْهَا"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، للهدية قيمة ثقافية في حياة الإنسان بمختلف الثقافات وعبر العصور، بل حتى الحيوانات تقدم الهدايا لبعضها البعض، وتزخر الحضارة السعودية بالكثير من رمزيات الهدايا سواء السيوف أو العود أو الثياب المطرزة والساعات التراثية المزينة بالسيفين والنخلة، بجانب الخيول والإبل وسواء كانت الهدية بغرض التقدير أو التودد فإن للهدية بعداً اجتماعياً متوارثاً في الأسرة السعودية، وكان الإعلان عن تسلم الهدايا أمر لا يحدث إلا في حال كانت من شخصيات اعتبارية أو ذات تأثير سياسي أو بين رجال وشيوخ القبائل، استمرت الحال حتى جاءت وسائل التواصل لتغتال الروح المعنوية للهدية، بل تغيرت تماماً معطيات الهدايا وأصبحت الأيدي تتلقف الأجهزة لتنشر المأكولات والملبوسات، وصينية أم فلان وزوارة الجيران لنجد أننا وصلنا أمام عبء اقتصادي مهول واستعراض لا يشبهنا على الإطلاق.
إن الثقل والرزانة من سمات أجدادنا التي علينا أن نكسبها للأجيال القادمة مهما كلف الأمر، والحل يبدأ من المدرسة، بل أتذكر كيف يتعامل الإنجليز في رياض الأطفال حيث نشأ ابني خالد لأجد أنه اليوم فتى قنوع ولا يمد عينيه لما في أيدي الناس فالتعليم الذي تلقاه كان مبنياً على إعلاء القيم المعنوية والفرح بالأمور الرمزية كطابع تحفيزي أو عبارة جميلة من معلمته، اليوم أتأمل في حال المدارس ويكاد يكون موضوع "حفلات التخرج" الموضوع الأكثر حديثا لكونه يشكل تغييراً حقيقياً في بنية المجتمع، وأهم العبارات التي تداولت حول ذلك ما نشرته الدكتورة الفاضلة سارة العبدالكريم، أيقونة وعي الطفولة حينما علقت حول الانتقال من مرحلة لمرحلة والانتهاء من الثانوية والجامعة وهو "التخرج" وهو الأمر الذي يجب أن ننطلق منه، تلاها مقال رصين للزميل الأمير الدكتور بدر بن سعود بعنوان: "التخرج جاهلية جديدة" واستعرض مفهوم التخرج وتسلسله التاريخي وشدد على أن مصروفات التخرج باتت تمثل معاناة حقيقية "لأنها تدخلهم في مقارنات لا يرغبون فيها مع الآخرين"، وهذا بالضبط جوهر مقال اليوم، إن الكثير من العلاقات انقطعت بسبب عجز أحد الأطراف عن الدخول في لقطات السناب شات، تقول لي سيدة فاضلة إنها اعتزلت الزيارات بسبب كثرة النفاق والتسابق على تصوير "أهدتني فلانة"، بل أردفت أنها توقفت تماماً حتى عن إرسال الهدايا لأنها تدرك أن مصير هديتها "النشر"، نعم لقد أثقل الناس على بعضهم البعض حتى وصلنا لهذا الحد.
وحتى أكون شخصاً عملياً سأطرح عدداً من المقترحات فيما يخص الهدايا، لنعيد هيبتها وقيمتها، أولها "لا تصور" هدية تصلك أو استأذن في أضعف الحالات، لا تفترض أن تهدي شخصاً ويردها إليك بذات القيمة ضع توقعاتك جانباً، لا تهدي شخصاً هدية فوق قدرته المالية فقد تسيء إليه دون أن تشعر، لا تمن في عطائك وما تعطيه اجعله طي النسيان ولا تذكره أبداً على لسانك، استمتع بما يصلك وما تصله للناس، ولا تجعل القلق يعتريك فأنت لست في معركة لتثبت نفسك وقيمتك تأتي من ذاتك لا من مالك، لا تشارك في هدية أو ما يعرف بالعرف الاجتماعي "القطية" هذه من أسوء العادات التي يجب أن تنقرض، فلا معنى لها سوى إرهاق مجتمعات العمل في "ولادة وترقية وتوابعها"، اجعل هديتك توقيعك الخاص حتى لو كانت شيئاً بسيطاً، لا تجامل أحداً وإن رغبت برفض هدية لا تتردد، في امتداد ذلك امتنع عن قبول هدايا الجنس الآخر في العمل أو خارجه، احرص على الهدية ذات المعنى والتي تحمل شيئاً من روحك ككتاب أو قصاصة أو حتى مقالة.
أخيراً، فإن السعادة والفرحة بالهدية بالشعور بالتقدير لهذا فإن أولى من تهديه هو نفسك، نعم لدي قناعتي الثابتة أن قيمتك تأتي من خلال تقييمك لذاتك، ضحكة والديك هدية وفرحة أبنائك هدية واحتضان من تحب ومصافحة عدو لك كلها هدايا لا تقدر بثمن، تمضي الأيام ونفنى، لكن لا خالد منا إلا معانينا.. دمتم بود وعيدكم مبارك.