: آخر تحديث

«الشارع لنا»

19
15
18

يستوقفنا في الكثير من المدن التي نزورها اللوحات التي تزين جدراناً فيها، والمرسومة عليها بعنايةٍ وإتقان، وفضلاً عن المتعة البصرية التي تتيحها لنا مشاهدة هذه اللوحات، فإنها تحمل رسائل من رسموها إلى الجمهور، وهي رسائل لا تخلو من الجرأة، والرغبة في كسر الصورة المعتادة عن الرسم، التي تحصره في اللوحات المعلقة في المعارض والمتاحف أو على جدران بيوت من يقتنونها.

الرسم على الجدران موغل في القدم. تكفي الإشارة إلى الرسومات المبهرة في المعابد الفرعونية، لكننا هنا بصدد الرسم على جدران الشوارع، وهو الفن الذي ترينا بدايات نشوئه طابعه المتمرد، حيث أراد أصحابه أخذه إلى الشارع، إلى الجمهرة الواسعة من المتلقين، بدلاً من أن يكون مقتصراً على النخب المحدودة من روّاد المعارض، كما أن طبيعة هذا الرسم، وفضاء الجدران التي يرسم عليها تمنح الفنان مساحةً من الحرية قد لا تتيسر له في فضاءات أخرى، للخروج على صرامة القواعد المتبعة فنياً. ولا يقتصر «فن الشارع» على الرسم وحده، أو ما يعرف ب«جرافيتي»، فقد يشمل أعمالاً نحتية وصوراً فوتوغرافية وغير ذلك.

راق لي وصف أطلق على هذا النوع من الفن، ورد في مقال منشور على موقع «وورلد برس»، يقول الوصف: «الثقافة على قارعة الطريق»، مذكّراً إيانا بعبارة الجاحظ: «الأفكار ملقاة على قارعة الطريق»، فإذا كانت هذه الأفكار كذلك، فما العائق في أن يجاريها في ذلك الفن، ويكون على قارعة الطريق يراه «العربي والأعجمي» لو استعرنا تعبير الجاحظ نفسه وهو يتحدث عن الأفكار؟ ولعلّ بعضكم يذكر كلمات الأغنية التي كتبها صلاح جاهين، وغنّتها ماجدة الرومي في سنوات شبابها الأولى، في فيلم يوسف شاهين «عودة الابن الضال»، القائلة: «الشارع لمين؟ الشارع لنا»، وثمّة قول أنّ بليغ حمدي وسيد مكاوي اشتركا في تلحينها.

سنفترض أن عبارة صلاح جاهين «الشارع لنا» هي لسان حال الفنانين الذين اختاروا الشارع فضاءً لفنهم، يرسمونه على الجدران المحاذية لهذا الشارع، الذي يعبره المشاة، وليس هذا بغريبٍ أو مستهجن، فما أكثر ما نعني بالشارع ليس الجانب المكاني له، وإنما نقوله، في أحايين كثيرة، للتعبير عن الرأي العام أو الناس، فحين نقول إنّ الشارع راضٍ، نكون قد عنينا أن الناس راضية، والعكس صحيح أيضاً بطبيعة الحال.

خروج الفن إلى الشارع ليس بدعة اليوم. فالموقع المشار إليه يذكّرنا بأن العروض المسرحية في زمن الرومان كانت تقام في الشوارع، وبالمثل كان فلاسفة الإغريق، كسقراط مثلاً، يخاطبون جمهورهم في الشارع.. وألم تكن سوق عكاظ في عصور ما قبل الإسلام مكاناً يلقي فيه كبار الشعراء قصائدهم، وليست فقط مكاناً لبيع البضائع؟

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد