هل يجوز التغاضي عن هذه المسألة، التي قد تثير استفهامات كثيرة في الذهن؟ لا شك في أن عدداً من القرّاء الكرام سيشعرون بأن القلم ذكر أكثر من مرّة الطرائف واللطائف والمُلَح والفكاهة والنوادر، بغير ما هو متعارف عليه من صفات الإعجاب والمكانة في المكتبة التراثية. لذا وجب التوضيح العلمي لغير العارفين.
الطرائف والفكاهة وسائر تلك المسمّيات المتشابهات، ليست من الأدب في شيء. هي أشبه شيء بالنكت، بل هي نكت.
احتلالها مساحات كبيرةً في كتب التجميع، مثل «المستطرف» للأبشيهي، «العقد الفريد» لابن عبد ربّه، والعشرات غيرها، لا يغيّر من الأمر والحكم عليها مثقال ذرّة. أكثر من ذلك، أنها حتى لو حُبّرت بأسلوب رشيق وبيان أنيق فإن إدارة الجوازات النقدية، لن تمنحها تأشيرة دخول إلى بلاد الأدب الساخر.
علاقتها بالنكتة تحول دون انضمامها إلى عائلة الأجناس الأدبية. أمّا الأسباب الموضوعية فتتمثل في هشاشة بنيتها، فهي كقشرة البيضة. ثم إنها تعتمد في أغلب الأحيان على نقطة تفجير في نهايتها، وهي المفارقة (بارادوكس)، ومن دون المفارقة التي ينتظرها المتلقي، قارئاً أو سامعاً، لتكون صاعق الضحكات والقهقهات، تفقد الطرفة أو النادرة عناصر وجودها. صاعق المفارقة هو الذي يبقى في الذاكرة. الأدب الساخر ليس هكذا ويمكن أن يمتدّ إلى مئة صفحة أو أكثر، والمتعة مستمرّة من دون انتظار مفاجأة بالضرورة، مواطن صلابته جليّة في كلّ بنيته.
ثمة جانب آخر مهمّ: إذا لم تتبخّر الطرفة بسرعة، فإنها تثير الملل. تخيّل نكتة طولها نصف ساعة. سينفض الناس من حولها. النقطة اللافتة هي أن النكتة لهشاشتها تغيّر شخوصها وأسماءهم وموقعها الجغرافي وحيوانات البيئة والأدوات إلخ، فالإبل والظباء في الجزيرة العربية تصير دببة وأيايل إذا انتقلت النكتة إلى روسيا. وصالح يغدو فلاديمير، والعاصفة الرملية تمسي عاصفة ثلجية وهكذا. لهذا يُخرج علماء النفس النكتة من الأدب الساخر تماماً، ويعدّونها في عداد الشائعات، في سرعة انتقالها وتلوّنها أكثر من الحرباء. الأدب الساخر ليس هكذا، ولا يستطيع أحد أن يغيّر منه فقرةً ولا حتى سطراً. «رسالة الغفران» لا يقدر أحد على أن يجد لإبداع أبي العلاء تبديلاً، أو يجد له تحويلاً.
لزوم ما يلزم: النتيجة الغرضية حين ندرّس شيئاً لا نعرف حقيقة طبيعته، يجب أن ننتظر ظهور ألوان هشة تهريجيّة غير جادّة، فيتوهّم الكثيرون أن «القفشات» فن كوميدي.