قبطان أهوج، وسفينة معطوبة، فقدت بوصلتها، وتعطلت إشاراتها في عرض البحر، ثمة هجمات وحشرجات وأصوات، شبيهة بلحظات ما قبل الغرق.
السفينة هي إسرائيل، والقبطان هو بنيامين نتنياهو، كلاهما ضل الطريق، اختصر الكلام عضو مجلس وزراء الحرب بيني غانتس في رسالته العلنية على الهواء مباشرة أمام حشد من وسائل الإعلام العالمية، عندما وجه «رسالة انصراف» من حكومة ما يسمى «الوحدة الوطنية الإسرائيلية».
غانتس باتصالاته ومعلوماته الإقليمية والعالمية، وحتى من خلال مراقبته الدقيقة للداخل، يدرك أن سفينة إسرائيل تجنح نحو الصخور، وربما ستكون الارتطامات عنيفةً، ولها ارتدادات يصعب معها الإنقاذ.
قبطان السفينة ينحاز إلى أقلية متطرفة، يدافع عنها بقوة، لمصالح شخصية وسياسية، يهرب بهم إلى الأمام، يزيد من إراقة الدماء، حلم البقاء في السلطة، تجاوز كل مفاهيم المسؤولية، قرر أن يفعل كل شيء في مقابل الاستمرار، من دون النظر إلى استقرار المنطقة بما فيها إسرائيل، وكأنه شمشون يريد أن يهدم المعبد على من فيه.
ليس مصادفةً أن يستدعي غانتس صفحات التاريخ اليهودي، في تلك اللحظات الحرجة، تحدث غانتس إلى نتنياهو وقال له: الاختيار لك، إما أن تكون هيرتزل أو بيغن، أو رابين، وإما أن تنحاز إلى المتطرفين، فتنهار معهم الدولة وجودياً للأبد.
كابوس التشققات في الداخل الإسرائيلي يطارد غانتس وأمثاله، خوفاً من الانهيار الإسرائيلي الكامل، وقد عبر عن ذلك بأنهم لم يخوضوا مثل هذه الحرب من قبل.
بحث عن طوق نجاة في التاريخ قبل الغرق النهائي، وجد في تيودور هيرتزل، يداً ممدودةً من بين أطلال التاريخ، هيرتزل هو صاحب كتاب «الدولة اليهودية»، الكتاب الذي أنشأ الحركة الصهيونية، والدولة الحالية. تحتل صورته مؤسساتها الحكومية، وتقبع على أحد وجهي «العملة الإسرائيلية التذكارية»، هذا الصحافي النمساوي المجري أتى باليهود، من شتى بقاع العالم، إلى فلسطين، بعد أن عقد مؤتمر بازل 1897، في سويسرا، واستطاع عبر كتاباته ولقاءاته بزعماء العالم أن يجعل الفكرة المستحيلة قابلةً للتحقق.
عندما يستدعيه بيني غانتس، فهي رسالة ماكرة لبنيامين نتنياهو، وأيضاً لليهود حول العالم، بأنه يمكن الوحدة بين المختلفين، فقد كان عصر هيرتزل عصر تشققات بين التيارات اليهودية، ونجح هيرتزل في إقناعهم بجدوى المشروع الإسرائيلي، ولذا ظهرت الدولة الإسرائيلية «العلمانية»، كما رأها ذلك الصحافي اليهودي، الذي كان ملحداً، وكما نعلم أن مؤسسي دولة إسرائيل عام 1948، كانوا علمانيين وملحدين، وعلى رأسهم ديفيد بن غوريون، وغولدا مائير، وهنا نفهم أن رسالة غانتس تريد أن تعيد إسرائيل الأولى إلى مسار النشأة، وسط محيط لا بد أن تجد فيه مكاناً للإقامة.
إذا كان هيرتزل نجح في فكرة وجود الدولة اليهودية، فإن غانتس استدعى بجواره مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، وزعيم حزب «الليكود»، وهو استدعاء ماكر أيضاً، لا سيما أن بيغن كان مؤسس «الليكود» نفسه، الذي يرأسه نتنياهو الآن.
كان بيغن في شبابه المبكر ضمن عصابة «الإرغون»، أي المنظمة العسكرية القومية في إسرائيل، وكان متطرفاً، لكنه بعد خمس حروب كبرى في المنطقة، رأيناه في منتصف السبعينات يذهب إلى السلام، بعد توقيعه اتفاقتي «كامب ديفيد» عام 1978، واتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979، ويحصل على «جائزة نوبل للسلام» مع الرئيس الراحل أنور السادات.
هنا تبدو رسالة غانتس، أكثر مكراً، يداعب بها العوالم الخفية لنتنياهو.
التجربة نفسها يستدعيها غانتس للمرة الثالثة، عبر إسحاق رابين، ذلك الرجل المقاتل القادم من عصابات «الهاغانا»، الذي خاض جميع الحروب ضد العرب، لكنه اكتشف أن الحروب لم تجعل إسرائيل آمنةً من دون الاعتراف بالوجود الفلسطيني.
قفز على المحرمات الإسرائيلية بشأن القضية الفلسطينية، ووقع اتفاقية أوسلو عام 1993، في حديقة الورد بالبيت الأبيض، مع الزعيم الراحل ياسر عرفات، بحضور الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، ووضع ورقة كانت بمثابة مسودة تسمى «وديعة رابين»، من خلالها ينسحب من هضبة الجولان السورية المحتلة، لولا أن عاجلته رصاصات المتطرفين اليهود، ودفنت معه أسرار السلام، لكن بصمته بقيت في خيار السلام الاستراتيجي لدى تيار قليل في إسرائيل.
كان استدعاء غانتس لهؤلاء الثلاثة (هيرتزل - بيغن - رابين) بمثابة رسالة استراتيجية من أجل بقاء إسرائيل، والإحساس العام بالخطر، رغم عدم اختلافه الجوهري مع رؤية بنيامين نتنياهو للسلام في الشرق الأوسط، فقد جاء خطاب غانتس متجاهلاً حل الدولتين، أو الوجود الفلسطيني، لكنه حرص كل الحرص على وجود علاقات سياسية بين إسرائيل وبين محيطها في المنطقة، من أجل بقاء إسرائيل التي يشعر بأنها، في ظل حكم حكومة بنيامين نتنياهو، أشبه بسفينة تشرف على الغرق، وأن قبطانها الحالي لا يشبه أياً من القباطنة الثلاثة الذين استدعاهم غانتس من التاريخ، ليضعهم أمام نتنياهو كعلامات في الطريق، لعله يسترشد بسياساتهم قبل فوات الأوان.