لو ألقينا نظرة عامة متعمقة وسريعة على الواقع السياسي لعالمنا العربي، منذ نكبة 1948، أي على مدى ثمانية عقود ماضية، تقريباً، لأصابنا الهول والذعر، ولصدمتنا حقيقة أن آثار هذه النكبة الهائلة ما زالت ماثلة... تعيق مسيرتنا، وتعرقل نهوضنا القومي العربي. إذ تلاحق تطور هذه الأمة، وتشدها، بقوة وعنف، إلى الخلف، عبر إشغالها عن حماية بقائها، وصون كرامتها، والمحافظة على حقوقها المشروعة، كما ينبغي، تجاه عدو يقوى مع مرور الوقت. وكيف لا يكون الخطر جسيماً، والتهديد جللاً، وقد أتى بعصابات إجرامية طامعة، من شتى بقاع الأرض، تحمل كل الحقد الأسود على العرب والمسلمين، وتريد إقامة إمبراطورية شر على أنقاضهم. إنها تريد، بذلك، رأس العروبة والإسلام. لقد اتفق الصليبيون مع الصهاينة على السعي للوصول إلى هذه الغاية البشعة.
ولهذه الإمبراطورية (إسرائيل الكبرى) التي يسعى التحالف الاستعماري - الصهيوني لإقامتها، ورسوخها، في قلب العالم العربي والإسلامي، هدف شرير مزدوج: إقامة دولة لعصابات لا تبرر صلتها بالمنطقة أبداً اغتصابها لفلسطين (كقاعدة انطلاق) وتشريد شعبها، وإيجاد قاعدة متقدمة للاستعمار الغربي العالمي.. ينطلق منها للهيمنة على عالمنا، واستغلال مقدراته، والحيلولة دون نهوضه، عبر إضعافه، وتمزيقه، ودعم عبث الصهاينة به. ومعروف، أن هذا الاستعمار يحتفظ دائماً لهذه الأمة، في جعبته، بمشروع تقسيمات جديدة.. رغم أن بعض العرب ما زال يراهن عليه، ويعمل على ربط مستقبله بتوجهات هذا الثنائي الكاسر. والواحد من هؤلاء كالحمل الوديع، بل الغبي، الذي يسلم أمره لقاتله.
****
هذه المؤامرة الكبرى أعادت أجواء عصر الصليبية، وفترة الاستعمار الغربي (القديم)، ووضعت العرب والمسلمين أمام خيارين صعبين: إما الاستسلام، أو المقاومة. بعد «سايكس - بيكو»، وتحقق «الاستقلال الرسمي» لمعظم الدول العربية، ثبت أن نمو أي قطر عربي، نمواً سليماً، يتطلب أمرين متلازمين: تطبيع الوضع السياسي للدولة الناشئة، أي دولة، عبر: تطوير وتحديث وتنمية الإدارة العليا لها. ثم محاولة إقامة تضامن بيني وثيق فيما بين الدول الأكثر قرباً (الشقيقة) يفضل أن يكون تكتلاً اتحادياً قوياً، وفعالاً. أي، بكلمات أخرى: تقوية الذات، تقوية حديثة جادة، والتضامن البيني الحقيقي لمواجهة الأخطار المشتركة، وفي مقدمتها (في حالة العرب) الخطر الصهيوني، مواجهة فعالة.
والنتيجة، بعد كل هذه العقود الثمانية، أن «التنمية» العربية سارت في درب الشكليات، والمظاهر الخادعة، وأن «التضامن البيني»، تحول، في كثير من الحالات إلى «صراع بيني». لقد نجح التحالف الاستعماري - الصهيوني في إفشال محاولات تقوية الذات، ودعم التضامن البيني.. ونتج عن هذا الفشل (العربي) تدهور حضاري متواصل، وتفاقم التباعد فيما بين من يفترض المنطق السليم تضامنهم الوثيق، ولو في مواجهة الخطر الصهيوني الكاسح، الذي يترصدهم جميعاً. وهو الخطر الأكبر، كونه صراع هوية وبقاء.
****
منذ نكبة 1948، أتى جيلان عربيان كبيران، تقريباً، في الفترة الممتدة من خمسينيات القرن العشرين إلى عشرينيات القرن الواحد والعشرين. كان أغلب الأحياء من هؤلاء - وما زالوا - يحلمون بتحقيق التضامن البيني.. وقبله تقوية الذات تقوية سليمة، أي تحقيق: الرفعة والكرامة، والحرية والعدالة والمساواة، في كل أرجاء ومضارب هذا الوطن العربي، الذي يكاد أن يختفي، مع مرور الزمن، خاصة مع وجود أجيال لاحقة، لا ترى أبعد مما يمتد إليه نظرها، وتكاد تسير دون هدى في ظلام (رسمي) دامس. لقد تأثر جيل الستينات (مثلاً) بمضمون أنشودة: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ... ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان.
فلقد تطلع ذلك الجيل، بعد نكبة 1948، إلى اليوم الذي يتحقق فيه، ولو الحد الأدنى من التضامن والاتحاد فيما بين العرب، ولا نقول «الوحدة»... باعتبار «الاتحاد» أكثر عملية، وأقل «خيالية».
****
ومعروف، أن سوء تطبيق أي فكرة، لا يعني فسادها، بل قد تكون فكرة مفيدة وملهمة، وعظيمة. والقومية يعتبرها أغلب علماء السياسة «عاملاً موحداً»، ومانعاً لـ «التفتت الدولي». ولكن سوء تطبيقها قد يحيلها إلى كارثة. وهذا ما حصل لفكرة القومية العربية، على يد «الناصرية» و«البعث»، وغيرهما. صحيح، أن الحركة «الناصرية» في مصر أشعلت فتيل هذا الشعور الاتحادي (التضامني) المحمود، والمفيد - إن تحقق في الواقع، بشكل سليم - لكل أطرافه. ولكن الناصرية خذلت العرب، بل وهزمتهم..عندما فضل زعيمها أن يكون حاكماً عسكرياً مستبداً، واستبعد الديموقراطية والمؤسساتية - حتى في المدى المتوسط - ثم زج بالعرب في حرب 1967، التي كانت مهزلة كبرى، ووصمة عار في جبين الجيوش العربية المتعنترة - على شعوبها فقط - والملتفة حول قائد أوحد.. أوجدته ظروف بائسة وتعيسة، وقدسه غوغاء؛ لأسباب تنم عن شذوذ فكري، ورغبة دفينة في العبودية، واستمراء للتسلط والفساد.
****
كانت مأساة 1967، وما زالت، الفأس التي قصمت ظهر الأمة.. ورمت بها في مزيد من الفرقة، ومزيد من الضعف، والانكسار، والتخلف، والهوان. ويخطئ من يدعي أن حرب 1973، قد شفت العرب من تلك النازلة الكبرى.. فما زال عربنا يعانون مر الأمرين من 1967.. ولا يوجد عاقل يمكن أن يدعي أي «بطولة» في 1967، كما يدعي بعض محترفي التهريج والمغالطات. أما «البطولة» العربية التي تحققت في عام 1973، فكانت مثقال ذرة، ولكنها كشفت العدو الحقيقي الأول لهذه الأمة. كانت محدودة وضيقة، بل وقاصرة.. خاصة بعد أن تمخضت عنها اتفاقية «كامب ديفيد».. التي مكنت لإسرائيل - بقوة وبزخم أكبر مما مضى - النمو والتوسع، واكتساب «شرعية» دولية مصطنعة واسعة، ومواصلة مشروعها الصهيوني البغيض، الذي يستهدف كل العرب، وفي مقدمتهم مصر.