هل طال بالقلم الجفاء لعالم الموسيقى؟ بل طال الصدود عن الموسيقى الجادّة في العالم العربي. أمّا كيف كان هذا الفنّ في الحضارة الإسلامية، فتلك أمور غائبة، تصوّراتنا لها غائمة. البحوث الموسيقية نائمة، فمن العجائب أن يعكف مؤلف موسيقي إسباني، قبل عقدين، على بعث الموسيقى المصرية القديمة من مرقدها، قبل ألوف السنين، ولا يعمل الفنانون العرب على النفخ من أرواحهم في موسيقى العصر العبّاسي. وأمّا عن القرن العشرين، فلم يعرف إلاّ أربعة عقود، بين 1920 و1960، من سرعة الإقلاع والتحليق في الأوج، ثم سرعة الانهيار ولغز التواري.
ما حدث في مصر ولبنان، كان ثورتين موسيقيتين متوازيتين متباينتين. أرض الكنانة احتضنت فنانين ومواهب عرباً كثيرين، وكعادتها استوعبتهم و«هضمتهم» وطبعتهم بطابعها. في لبنان، فتح الرحابنة للموسيقى العربية دروباً مختلفة، في كلمات الأغنية وألحانها وتوزيعها الأوركسترالي، وفي المسرح الغنائي. لو كان الرحابنة كثيرين، أو كان في لبنان الكثير من المتفردين بإبداعهم، لاختلف مصير الموسيقى العربية. في بقية البلدان العربية، ظلت الأغنية محليّة تقليدية تمشي الهوينا في تطورّها، فلا تسمع تغييراً يُذكر حتى كل عقدين.
لماذا ثورتان متزامنتان مختلفتان؟ في مصر، أضاع الوسط الموسيقي فرصتين ذهبيتين: الرياح اللواقح الأوبرالية بمناسبة افتتاح قناة السويس 1869، ومؤتمر الموسيقى العربية، القاهرة 1932 . في المقابل حدث تحوّلان تاريخيان نحصرهما في شخصين، ولو أن في ذلك جوراً كبيراً: محمد عبدالوهاب، رمز التجريبية الدائمة، ورياض السنباطي، الذي شاد الأغاني الكلثومية بالذهنية التي شيدت بها الآثار العملاقة في الجيزة والأقصر، مثلما تقارن الأعمال السيمفونية في عصر الباروك بصروح عمارة الباروك والعمارة القوطية. الهيمنة الموسيقية عربيّاً لذينك التيارين جعلت القاهرة مركز جاذبية موسيقية، فتمصّر الكثير من الفنانين العرب، خصوصاً من لبنان وسوريا، وتالياً من تونس والجزائر والمغرب...
أما في لبنان، فقد ضرب الرحابنة بعصا لغة شعرية جديدة (سعيد عقل، جوزيف حرب، عاصي ومنصور...)، بحر لغة الغرام التقليدية القرونية: «تكاد تضيء النار بين جوانحي»، صارت المدّة حوالي خمس دقائق. يُحسب للرحابنة أيضاً تعزيز الغناء الجماعي، الذي كانت له خطط في ذهن سيد درويش، لولا الأجل. لا مفرّ من الإقرار بهول المشهد، فالواقع الحالي لا يعيدنا إلى عصر الأساطين، ولا هو أهل للإقلاع نحو مستقبل واعد.
لزوم ما يلزم: النتيجة الأندلسيّة: المطلوب، ابن زياد يقول للموسيقيين، الأساطين من ورائكم، والضحالة من أمامكم، وليس لكم إلاّ الإبداع والتجديد.