بعد التفاعل الكبير الذي وجده مقالي الأسبوع قبل الماضي حول زراعة البن في بلادنا، أستمر في الكتابة عن المحاصيل الزراعية في بلاد عرفت بالزراعة منذ القدم، ويساعد على نجاح تجاربها في هذا المجال التربة الجيدة واختلاف التضاريس والأجواء في بلاد مترامية الأطراف، وأهم من كل ذلك شعب يعشق الزراعة جيلا بعد جيل، وقيادة توفر جميع أسباب النجاح من تمويل ميسر إلى تقنيات حديثة وشراء المحاصيل بأسعار جاذبة ومحفزة لمن يستثمر في هذا القطاع المهم، ومن منطلق أن كل دولة تبحث عن الأمن الغذائي، بحيث لا تعتمد كليا على استيراد الغذاء، فقد اخترت الكتابة عن إنتاج القمح، الذي يعده البعض في مقدمة شروط توافر الأمن الغذائي الحقيقي لأي دولة. وفي الماضي البعيد كان المزارع الذي يزرع القمح إضافة إلى محصول التمر هو الغني فعلا، هكذا قال لنا الآباء والأجداد، رحمهم الله.. ثم كبرت المشاريع ولم تعد تعتمد على الأفراد فقط، وبدأت في أوائل الثمانينيات الميلادية أي قبل أكثر من 30 عاما زراعة القمح بتوسع لم تشهده بلادنا من قبل، وتحملت الدولة إيجاد البنية التحتية اللازمة، حيث منحت الأراضي ودعمت توفير الرشاشات المحورية، وتسابق الأفراد والشركات على زراعة القمح، وخلال خمسة أعوام وصلنا إلى حد الاكتفاء الذاتي، وبلغ الإنتاج السنوي أكثر من ثلاثة ملايين طن.
وفي نهاية 1428 صدر قرار مجلس الوزراء بالموافقة على قواعد وإجراءات ترشيد استهلاك المياه وتنظيم استخدامها في المجالات الزراعية.. ونص القرار على أن تتوقف المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق سابقا - التي أصبح اسمها الآن الهيئة العامة للأمن الغذائي - عن شراء القمح المنتج محليا تدريجيا، حتى توقف الشراء نهائيا عام 1436. وأذكر أن مناقشات دارت عبر الصحف عن هذا الموضوع، حيث أيد البعض عدم إنتاج القمح للمحافظة على المياه، وأشار من يدعم هذا التوجه إلى أنه بالإمكان شراء القمح من الدول التي تقوم بإنتاجه وبأسعار ربما أقل من تكلفة القمح السعودي.. لكن هناك من قال - وكنت أحدهم - إن التوازن في هذا المجال يمكن أن يكون هو الأجدى.. بحيث يتم إنتاج كمية أقل من القمح، لأهمية ذلك في ميزان الأمن الغذائي الوطني، ويمكن استيراد كمية أقل، خاصة أن أسعار الاستيراد غير مضمونة، كما أن سلاسل الإمداد تتوقف في حالة المؤثرات السياسية والحروب، كما هي الحال لحرب روسيا وأوكرانيا.. وهناك أسلوب بديل لشراء القمح المستورد، وهو زراعة القمح في بعض الدول باستثمارات سعودية، وقد تم ذلك بمساهمة فاعلة من صندوق الاستثمارات العامة عبر شركة (سالك)، المتخصصة في الاستثمار الزراعي.
وأخيرا: صدر قرار مجلس الوزراء في 1437 بإيقاف زراعة الأعلاف، والعودة إلى شراء القمح من المزارعين، وتم رفع الكمية المشتراة من المزارعين إلى مليون ونصف مليون طن سنويا.. أي نصف الكمية التي كانت تنتج سابقا، وأخذت به الدولة الحريصة على التوازن بين الأمن الغذائي مع المحافظة على المياه، وتعمل وزارة البيئة والمياه والزراعة على وضع الخطط والضوابط التي تضمن ذلك التوازن مستقبلا.