بعد انقضاء ما يقارب خمسة أشهر على مبادرة "حزب الله" بشن حرب "مشاغلة" ضد إسرائيل، تبدو فاتورة هذه الحرب باهظة جداً، ومكاسبها ضئيلة للغاية. فسقوط أكثر من 220 مقاتلاً وقيادياً ميدانياً، إضافة إلى 40 مدنياً، وتدمير مئات المساكن كلياً، وتضرر آلاف المساكن والبيوت جزئياً، وتوسع نطاق الضربات الإسرائيلية لتصل إلى عمق يزيد على 100 كيلومتر من الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. يعكس عدم تطابق بين حسابات الحقل وحسابات البيدر! ونحن هنا لا نتحدث عن غياب أي دليل مقنع إلى نجاح الرهان على حرب "المشاغلة" التي اتخذها "حزب الله" من دون أن يلتفت إلى الرأي العام اللبناني الرافض بغالبيته العظمى أي تورط في الحرب.
فالحرب في غزة استمرت. والجيش الإسرائيلي يواصل عمليته البرية في الوسط والجنوب وصولاً إلى مدينة رفح التي تواجه خطر اجتياح إسرائيلي واسع في المرحلة الأخيرة من الحرب. كما أن الحديث يدور اليوم حول اليوم التالي لحرب غزة، ومرحلة ما بعد حكم حركة "حماس". ولا يدور حول انتصار لـ"حماس" والفصائل الفلسطينية. أما الكارثة الإنسانية التي حلت بقطاع غزة فيمكن أن نقول بكل صراحة إن حروب "المشاغلة" التي شنتها الفصائل الإيرانية في المنطقة، وفي مقدمها "حزب الله"، بعد عملية "طوفان الأقصى"، لم تثمر وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا تخفيف الضغط عنها، ولا حتى تحسين وضعية حركة "حماس" والفصائل الفلسطينية في المعركة الدائرة على الأرض. بمعنى آخر، إن حروب "المشاغلة" لم تترجم الشعارات التي رفعها أصحابها إلى حقائق ملموسة على الأرض، وظلت مجرد شعارات. فمن العراق حيث طويت قضية إخراج ما يسمى بالاحتلال الأميركي للعراق، إلى اليمن الذي أضاع فيه الحوثيون "طريق غزة" وانتهى بهم الأمر إلى التورط في هجمات عشوائية على الملاحة البحرية الدولية، إلى لبنان حيث ضل فيه "حزب الله" طريقه نحو "القدس" فصارت حرب "المشاغلة" بمثابة حمل ثقيل على أبناء الجنوب اللبناني، وأكثر ثقلاً على باقي اللبنانيين الذين لا ينتمون إلى بيئة "حزب الله".
لقد أثبتت الوقائع منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر )2023 أن تجربة "وحدة الساحات" لم تتعدّ الإطار السياسي الدعائي، في الوقت الذي قام الإسرائيليون بطحن قطاع غزة من شماله، فيما ظلت حروب "المشاغلة" مضبوطة الإيقاع واقعياً، ومنفلتة من عقالها دعائياً.
لقد أدت حرب "المشاغلة" في لبنان إلى تعريض لبنان للخطر، وغالبية اللبنانيين من خارج بيئة "حزب الله" الحاضنة معارضة بشدة لسلوكه وسياساته، ولمصادرته القرار السيادي بالحرب والسلم، وتعريض البلاد برمّتها لخطر نشوب حرب، حتى لو توصل الوسطاء الدوليون إلى إنجاز هدنة في غزة قبيل حلول شهر رمضان. وفي ظل صدمة "طوفان الأقصى" أيقظت مغامرة "حزب الله" المشاعر العدوانية الإسرائيلية والمخاوف من إمكانية أن تتكرر عملية "طوفان الأقصى" في الشمال بقدرات "حزب الله" التي تفوق "حماس". لقد ارتكب "حزب الله" خطأً كبيراً على مستويين: الأول، أنه نجح من حيث لا يدري في تشكيل شبه إجماع إسرائيلي في الوسطين السياسي والعسكري، وفي الرأي العام مؤيد لشن حرب ضد "حزب الله" في لبنان لتغيير الواقع في الجنوب اللبناني. والثاني أنه كشف عن عزلة داخلية فعلية جراء عمق الهوة بينه وبين كل البيئات اللبنانية التي تعارض مغامرته.