طُرحت المصالحة بين الدّين والفلسفة، في المؤتمر الدُّوليّ الثَّاني للفلسفة (6- 7 فبراير 2024، الذي عقدته «جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانيَّة» بأبوظبي، وكان عنوانه «الفلسفة ورهان التَقدم النظريّ والاجتماعي»، كي لا تبق «العلاقة شقية سلبية بين الفلسفة والدِّين»، حسب كلمة الافتتاح لمدير الجامعة الأكاديميّ خليفة مبارك الظّاهري.
أقول: مَن يقرأ تاريخ الفلسفة الإسلامية، سيجد أن المشكلة ليست بالفلسفة والفلاسفة، إنما بالأصولية الدينية، فهي التي حَرّمت الفلسفة، وحذرت مِن تعليمها، مع أنّ مجالها الوجود، والأخلاق، والفن، والعِلم، وكلّ ما يتعلق بالحياة، فلم يفرض الفيلسوف نفسه وكيلاً عن الله، ولا فقيهاً، إلا أنَّ الأصوليّة لا تريد تفكيراً خارج مسلماتها، وإذا أريد تحقيق مصالحة فلا تعني إذابة أحد المجالين في الآخر.
لا أجد أبا هلال العسكريّ(ت: 395 هـ) دقيقاً في كتابه «الأوائل»، لا متقدماً إلا غرف مِن متقدمٍ عليه، لذا عندما أذكرُ أنَّ للمعتزلة(ظهرت 110هجرية) السّبقَ في طرح المصالحة بين الدين والفلسفة، أذكرها على قلقٍ. تسلح المعتزلة بالفلسفة اليونانية، دفاعاً عن الدّين، وهناك مَن اعتبرهم فلاسفة الإسلام الأوائل(ألبير نصري نادر مثلاً)، وبينهم المفسرون والفقهاء.
شبك المعتزلة الفلسفة بمقالات الدِّين، فتحدثوا عن الوجود والعدم، والاختيار والإجبار، العقل في تقييم النص الدينيّ، حتى نجحوا بإثارة فكرة المصالحة بين المجالين، فعندما يجادل المعتزلة في المادة والحركة، وسقوط الأجسام، وقوانين الطبيّعة، لم يجر هذا إلا بعد التشبع بالفلسفة والعقيدة الدّينيَّة معاً، غير أنَّ التّجربة انتهت إلى مماظة(ذروة المخاصمة) بينهم وأصحاب الحديث، مع أنَّ أكثر مِن معتزلٍ فسر القرآن، مثل أبي عليّ الجبائي(ت: 303 هجرية)، وأن الفخر الرّازي(ت: 606 هجرية)، وهو أحد الأشاعرة، أعتمد في كتابه «المحصول» على فِكر المعتزلي أبي الحسين البصري(ت: 436 هجرية) وكتابه «المعتمد»(الصّفدي، الوافي بالوفيات).
كان أروع مَن كتب في تاريخ الفلسفة الإسلامية، مِن المعاصرين، حسين مروة(اغتيل: 1987) «النّزعات الماديّة في الفلسفة العربيَّة الإسلاميّة»، والطَّيب تزيني(ت: 2019) «مِن التّراث إلى الثورة»، وحسام الدِّين الآلوسيّ(ت: 2013) «حوار بين الفلاسفة والمتكلمين»، وعابد الجابريّ(ت: 2010) «بُنية العقل العربيّ»، وجورج طرابيشيّ(ت: 2016) «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام»، وغيرهم مِن الرَّاحلين، ناهيك عما صنفه الأحياء مِن المشتغلين في الفلسفة، وهم كثرٌ.
نجد في تاريخ الفلسفة، الذي درسه المذكورون، تجاربَ من المصالحة، والمماظة أيضاً، فهذا أبو نصر الفارابيّ(ت: 339 هجرية)، يشترط بطالب الفلسفة معرفة الشَّريعة: «تعلُم القرآن واللغة وعلم الشرَّع، غير مخل بركن مِن أركان الشَّريعة»(البيهقي، تتمة صوان الحكمة).
كذلك طرح «إخوان الصّفا»(القرن الرَّابع الهجري) المصالحة بين الفلسفة والدّين، فدولتهم «دولة الخير» تقوم على مزج الشَّريعة والفلسفة، بين الأنبياء والحكماء، فقالوا: «فأما من تعلّم علم الشّريعة، وعرف أحكام الدّين، وتحقق أمر النّاموس، فإنَّ نظره في علم الفلسفة لا يضره، بل يزيد في علم الدّين محققاً»(الرِّسالة الثَّالثة/القسم الرَّياضي).
غير أنّ التجارب كافة كانت تُفشلها محاولات رجال الدين بالتفرد في التفكير، عندما يتعلق الأمر بتحكيم العقائد الدينية في السياسة، واحتكار التعليم. فكم فقيه تفلسف وكُفّر مِن قِبل أصحابه الفقهاء، وكم فيلسوف حاول النّظر في الوجود، بمعزل عن المذهب السّائد، فوجهت له تهمة الزندقة!
لهذا أرى إبقاء كلّ في مجاله، لأنَّ النظر بالموجودات يتعارض مع الدّين، إذا أخذت الأفكار مسلمات لا جدال فيها، والفلسفة، عند البحث في الوجود، لا تقبل المسلمات، لأنها أفكار تتوافق وتتعارض، وهذا دَيْدن العِلم، وتبقى هكذا، ومِن يريد الاستزادة يُقابل «تهافت الفلاسفة» بمضاده «تهافت التّهافت». أقول: لا مصالحة تفرض التّداخل، ولا اختلاف إلى حد المماظة، فعندها تتحرر الفلسفة، وتدخل مناهج التّعليم، تساهم في التَّقدم الاجتماعيّ.