: آخر تحديث

تفكيك مثلّث برمودا اللبناني

15
18
19
مواضيع ذات صلة

يصعب تقدير الميزانية التي رصدتها المصارف اللبنانية حصريّاً، لتلفزيون ال«إم تي في» اللبنانية للترويج الإعلاني بأنّ حياة لبنان وبقاءه مرتبط، بالرغم من الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية، بقطاع المصارف تحديداً، الذي لا يمكن، ويجب ألا ينهار.

كيف ولماذا؟ كلّفت، خصيصاً لهذا المقال، عدداً من طلّابي الجامعيين بدراسة سريعة طرحوا فيها هاتفيّاً سؤالاً واحداً على عيّنة من 50 لبنانية ولبنانياً يتابعون بانتظام ال«إم تي في»، وطلبوا منهم إن كانوا يتذكرون نص شعار الإعلان القائل إنّ «انهيار القطاع المصرفي بيمحي لبنان»(بالعامية). لم يتذكّر أحد منهم الشعار حرفيّاً. تذكّروا «محو لبنان» أوّلاً باستغراب ثابت وانتقاد للإعلان، ثمّ تذكّروا «انهيار المصارف»، بهزء وحقد وشتائم.


 حفر هذا الربط بين امّحاء لبنان وانهيار المصارف في أذهان المشاهدين، ويستمرّ بثه، إعلاناً قويّاً يتكرر يوميّاً، كأنه خشبة الخلاص عندما يبدأ بالسؤال: «هل تدمير القطاع المصرفي هو الحل؟».

 «طبعاً لا. هو الضمانة الوحيدة لبقاء البلد، لأنّ انهياره بيمحي لبنان». كلمات بالعامية تهزّ السامع ب«محو لبنان»، مصحوبة بصور متظاهرين ملثّمين ثائرين يديرون ظهورهم للكاميرا، ويهدمون جدران مصرف بالمطارق الثقيلة، ليرتفع بعدها صوت رخيم دافئ يُعلن بالصوت العالي: «لازم نكون صف واحد. الاقتصاد ما لازم يموت»، بالعامية أيضاً، ويختتم الإعلان بالأيادي المتشابكة مرفوعة إلى فوق.

صحيح أنّ معظم اللبنانيين تهدّم مستقبلهم وهم يتشبّثون بالوطن، وحاقدين على المصارف ورجال السياسة والمال، لكنّ الثابت أنّ لبنان في الأذهان ليست كلمة فوق ورقة بيضاء يسهل محوها إذا ما انهارت المصارف، بعدما نهبت الودائع لمصلحة منظومة السياسيين والحزبيين المحظيين ورجال الأعمال والمصرفيين، وحاكم مصرف لبنان.

  نموذج عن فلسفة الإقناع لدى المعلن المتذاكي الذي ساوى المصارف بالوطن، لكن الصورة والحقائق تنقلب على ظهرها بين ثقافتيَ المسؤولين واللبنانيين الذين تبخرت ودائعهم، وجنى أعمارهم بعدما محتها المصارف، ومحت معها أحلامهم، واندثرت عائلاتهم، نحو أرصفة الفقر والجوع والقمع في الداخل، كما عبر عواصم الأرض وأرصفتها في العالم.

 تدهورت السياسات النقدية أخيراً، وسقط لبنان في المنطقة الرمادية، وبات خارج سياج النظام المصرفي العالمي. وهكذا وجد اللبنانيون أنفسهم خارج مثلّث برمودا مقفلاً بأضلاعه وزواياه الثلاث، أعني المصرف المركزي، وزعماء الطوائف وأزلامهم من تجار ومحاسيب وأقارب، والمصارف بفروعها التي لا حدود لها يتحلّق أصحابها ومجالس إداراتها في جمعية المصارف. صارت السياسات النقدية تُضاعف أرباح المصارف، على حساب المالية العامة وقطاعات الاقتصاد اللبناني. رُفعت معدلات الفوائد الجارية على سندات الخزينة إلى مستويات غير مسبوقة، مع العلم أنها تشكل عادة العمود الفقري لبنية هيكلية الفوائد في السوق المالية، خاصة بعد الحروب والكوارث إذ تُخفّض الفائدة إلى المستويات الدنيا تشجيعاً للتوظيفات المنتجة. في المقابل رفع مصرف لبنان الفائدة، إثر الدمار الشامل الذي أحدثته الحروب الأهلية إلى ال18%، ما ضخّم الأرباح المصرفية واستقطاب الثروات من الخارج لحساب الخزينة.

 بدأ تفكيك مثلث برمودا اللبناني، إذ أصدر «الإنتربول» مذكرة توقيف، ماحياً رياض سلامة أوّلاً، لا لبنان، على خلفية مذكرة فرنسية بحقه، بعدما أصدر المدعي العام الفرنسي المختص بالقضايا المالية مذكرة باعتقاله بتهم فساد وتزوير، وتأليف عصابة لتبييض الأموال والاختلاس، مع أنّ سلامة ينفي ذلك بعد تغيّبه عن جلسة قضائية في باريس، ثم تبعه القضاء الألماني الثلاثاء 16 الفائت بمذكرة اعتقال بحق سلامة، وهناك إشارات مماثلة من اللوكسمبورغ قريباً، كأنّ الحبل على الجرّار.

 تتوسّع الشقوق فوق الرؤوس الكبيرة، كما يُشاع، مصحوبة بالنصائح العلنية التي تُطالب رياض سلامة بالاستقالة الفورية، بعدما كان مطمئناً إلى كرسيه طويلاً في حاكمية مصرف لبنان المُصان والمحمي بشراكات مع المنظومة الأضخم. الجميع بانتظار برامج الإصلاحات وإقرار «الكابيتال كونترول» الأعرج، وتعرية المصارف التي ما زالت تهرّب الأموال نحو الخارج حتّى اليوم، كما أعلن الياس أبو صعب نائب رئيس مجلس النواب، أوّل من أمس، سائلاً بغضب: «ماذا ينتظر رياض سلامة بعد؟ استقل.. أخاطبك مباشرة عبر الهواء بأنني لو كنت مكانك لاستقلت فوراً، لأنّ بقاءك يعني سقوط المصارف، ولن أقول أكثر من ذلك إلى أين نحن ذاهبون».

 قطعاً إلى الخراب الذي أتمّنى ألاّ يذكّرني بالشاعر الأمريكي ت.س. إيليوت في كتابه بعنوان: «The wast land» أي «الأرض اليباب»، أو الخراب، لكنّ لبنان لن يُمحى


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.