تيسرت لي من الفرص ثلاث سابقات زرت فيها العراق في سبعينيات القرن الماضي، إلا أنها لم تكن كافية لتتيح لي زيارة مدينة البصرة، ولا أعتقد أن الوقت سيجود علي بفرصة أخرى لزيارة بلد الرافدين في هذا الزمن خاصة في ظل الوضع البائس الذي يتخبط فيه العراق الآن، لألمس لمس اليد، قبل أن يتعذر علي فعل ذلك، حقيقة المثل القائل: «اللي ما شاف البصرة يموت حسرة». ما أنا متأكد منه وأنا أستحضر هذا المثل أنه صادق تمامًا قبل سنة 1991 عندما اختار صدام حسين في نوبة مرض نفسي غزو الكويت في عام 2003 ليفتح على العراق أبوابًا من الشر عندما توقف نبض العراق وسقط جثة هامدة في يد الأميركان الذين سلموا ما تبقى منه لعصابات الإسلام السياسي التي تعمل بوكالة صريحة لا حياء فيها لإيران.
المؤكد، أيضا في ظل بقاء هذا المثل حيًا متداولًا في الداخل العراقي وفي دول الخليج العربي، أن من لم يزر البصرة قبل عام 2003، وهو العام الذي فيه توقفت الحياة عن التطور، لا يمكنه أن يدرك المعنى الحقيقي لهذا المثل المبني على تصوير ترغيبي لمدينة عجيبة لا بد من زيارتها، وعلى رسم بديع لمدينة مثال في المخيال الشعبي تستوي معيارًا يقاس به بهاء المدن الأخرى وجمالها بناءً ونظافةً ورقيًا مدنيًا. هكذا كانت صورة البصرة من خلال ما يصلنا عنها من آيات المديح من أبنائها أو من العراقيين أو من الذين زاروها في ذلك الزمن، غير إني الآن لا أعرف حقيقة كيف صار حال البصرة بعد أن عاثت غربان الأحزاب الدينية الطائفية فسادًا وإفسادًا في العراق، ولا أعلم إذا ما حافظ المثل الذي ذكرته على بقائه حيًا في حديث العراقيين أم إنه قد صار من الأقوال المأثورة المستقرة فحسب في متاحف الذاكرة الشعبية!
التاريخ يذكر أن البصرة هي أول مدينة بناها المسلمون في العراق، وقد شيدها عقبة بن غزوان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وتعد هذه المدينة مذ أُنشئت كنز العراق ومصدرًا من مصادرها المهمة، إن لم تكن الأهم على الإطلاق، على كل المستويات الاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية. فعن طيبة البصريين وكرمهم تحاك قصص طريفة وأساطير بديعة. فهي المدينة التي تختزن في جوفها مصدر الرخاء المفترض للعراق لولا فساد أحزابها الدينية الحاكمة وطغيان ميليشاتها المذهبية التي مكنها الغزو الأمريكي من القفز إلى السلطة لممارسة القمع والنهب المنظم لخيرات العراق. فمن بطن هذه الأرض وفيها نشأ المفكرون والمثقفون والفلاسفة والعلماء مثل الخليل بن أحمد وسيبويه والجاحظ وابن سيرين والفارابي ومظفر النواب وغيرهم من المبدعين الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، ومن شط عربها انثالت إلى عموم الخليج العربي أجمل القصائد وأعذب الألحان التي شنفت الآذان الخليجية والعربية.
هذه المدينة التي ضجت فيما مضى بمقومات الحياة المدنية الراقية، وأصبحت في عداد المدن المهملة لولا ناسها الطيبون الذين يغدقون بكرمهم على كل زائر لمدينتهم وخاصة منهم العرب، اختيرت مكانًا لإقامة النسخة الخامسة والعشرين من مسابقة كأس الخليج العربي التي تقام كل سنتين بمشاركة منتخبات خليجية عربية. وأبصم بالعشرة أن الاختيار كان موفقًا لعدة أسباب من أهمها أن نثبت للإيرانيين المتنطعين بسلب عروبة العراق أن العراق ما يزال شامخًا بانتمائه العربي، ثابتًا بمحافظته على عاداته وتقاليده العربية، وهذا ما بدا واضحًا جليًا من حفاوة الاستقبال الاستثنائي للوفود الخليجية العربية الرسمية والأهلية، والكرم البصري الذي أسعد ويسعد كل المتابعين -سواءً بالحضور المباشر هناك أم من وراء شاشات التلفزيون- للمباريات والفعاليات المقامة حاليًا ببصرة العراق العربية.
شخصيًا يهمني بمناسبة دورة كأس الخليج هذه أن يحرز منتخبنا الكأس مرة أخرى ليوفر فرصًا للفرح يحتاجها الشعب البحريني، وهذا شأني في أي عاصمة خليجية تقام فيها المسابقة التي أقيمت نسختها الأولى في البحرين درة الخليج في عام 1970، ولكني في هذه المرة، وأنا لا أبالغ في ذلك، قد ألهاني عن هذا الحلم المتجدد بالفوز المكان الذي تقام فيه المسابقة لما له من مكانة في الذاكرة الجمعية للعرب عامة ولأبناء الخليج على وجه الخصوص، وتمنيت صادقًا لهذه الدورة أن تكلل بالنجاح رغم أنوف أعداء العروبة والعراق؛ لأن إيران وميليشياتها المنتشرة والتي لا ضابط لإيقاع همجيتها لا تحظى عندي بأي ثقة، خاصةً وأن بعضًا من هذه الميليشيات قد هددت بإشاعة الفوضى في ابتزاز رخيص لا يُستغرب من لصوص تربوا على الحقد ونُشئوا على حلم اجتثاث العراق من منبته العربي، ولكن يبدو أن التيار العروبي في العراق كبير بحيث أسقط كل هذه التهديدات وفرض سلامه فرضًا ليستقبل العرب ويكشف عن حبه لهم من خلال الكرم المفرط الذي تفضلت قنوات تلفزيونية كثيرة بنقل مظاهره ووسائل تواصل اجتماعي عديدة بنقله حيًا من الشوارع والطرقات والبيوت.
ما يعلق حقًا بالذاكرة بقطع النظر عن مجريات المنافسة الرياضية بين إخوة اجتمعوا ليؤكدوا وحدتهم الرمزية كرم أهل البصرة وحرصهم على إكرام إخوتهم في الانتماءين الخليجي والعربي. فشكرًا لأهلنا في العراق عمومًا وفي البصرة خصوصًا، جئناكم ووجدناكم على العهد باقين كدأبكم أيًا كان النظام السياسي القائم، والكرم من مأتاه لا يُستغرب؛ لأن الأصالة سباقة دائمًا وظاهرة أبدًا على كل طارئ زائف، ولأن من كان معدنه ذهبًا لا يُمكن أن يطاله الصدأ.

