: آخر تحديث

الرابحون والخاسرون من صِراع القارة الأوروبية

23
26
29
مواضيع ذات صلة

تفاعلات السياسة الدولية القائمة في القارة الأوروبية تشير لمرحلة جديدة من مراحل تغيير صورة وشكل وقد يكون مُسميات اللاعبين الدوليين. فمُنذُ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، اتسمت الحياة السياسية الأوروبية بالسلام وغياب الصراعات مما مكّنها من أن تتقدم تنموياً واقتصادياً وصناعياً وتقنياً، وأن تؤثر سياسياً وأمنياً وعسكرياً في توجهات المجتمع الدولي، وأن تساهم في التفاعلات الدولية السلبية والإيجابية بما يخدم مصالحها المباشرة وغير المباشرة، ويضمن لها التفوق على غيرها من الأمم والمجتمعات. إلا أن اختلاف المصالح الداخلية بين دول القارة الأوروبية، واختلال ميزان القوى بينها، أخل بحالة السلام الطويلة التي عاشتها القارة الأوروبية على مدى خمس وسبعين عاماً لتستبدل بحالة صراع قاسية ودامية بدأت في فبراير 2022م هدفها المحافظة على حالة التوازن التاريخية، وغاياتها تغيير طبيعة وهيكل البنيان الدولي أحادي القطبية القائم منذُ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م. وبعيداً عن إمكانية تحقيق الأهداف المنشودة من هذا الصراع المسلح، أو الوصول للغايات المأمولة منه، فإن هذا الصراع يحدث في نسق دولي مُكون من عدد كبير من الدول الكبيرة والمُتوسطة والصغيرة التي تسعى للاستفادة من مثل هذه التفاعلات الدولية السلبية أو الإيجابية، واستغلالها، لتحقيق مصالحها العليا وخدمة سياساتها المنشودة. لذلك، ومن هذه المنطلقات السياسية، فإنه من الأهمية القول بأنه كما أن هناك رابحين دوليين كُثر من هذا الصراع الأوروبي القائم، فإن هناك، أيضاً، خاسرون دوليون عديدون من هذا الصراع المسلح بين أطراف أوروبية.

نعم، إن هناك رابحين دوليين كُثر من هذا الصراع الأوروبي المسلح، إلا أن تحقيق هذا الربح وتعظيم المنافع يعتمد بشكل رئيس على مدى استثمار تلك الدول والمجتمعات لهذه الفرصة السياسية التاريخية والتي يصعب الحصول عليها خلال فترات قريبة. نعم، إن الرابحين الدوليين كُثر، إلا أن الوطن العربي -بمختلف دوله ونُظُمه السياسية- يُعتبر أعظم الرابحين من هذا الصراع الأوروبي القائم. فبعد سبعين عاماً من الهيمنة الأوروبية الغربية على مفاتيح السياسة الدولية، والتحكم بتوجهات الاقتصادات والصناعات والتقنيات الدولية، وتحريك الصراعات الإقليمية والدولية في مختلف مناطق وأقاليم العالم، يأتي هذا الصراع المسلح بين الأطراف الأوروبية ليشغلهم جزئياً عن أطماعهم الاستعمارية ويعطي فرصة للعالم العربي -الأكثر قرباً جغرافياً للقارة الأوروبية- ليتحرر قليلاً من الضغوطات السياسية، والهيمنة الاقتصادية والصناعية، والصراعات المفتعلة داخل الوطن العربي ومع دول جواره التاريخية. نعم، إن هذا الصراع الأوروبي المسلح يمنح الوطن العربي فرصة تاريخية لإعادة بناء المجتمعات العربية على أُسس صلبة ومتينة ومتماسكة في جميع المجالات التي من شأنها النهوض بالوطن العربي ليكون في مصاف دول العالم المتقدم والصناعي والتقني. فالوطن العربي الذي سلبت وسرقت خيراته على مدى قرون عديدة، ومورست عليه الضغوطات والابتزازات السياسية والاقتصادية والصناعية، وافتعلت فوق أراضيه المؤامرات لاستنزاف خيراته وتدمير مقدراته وتشويه صورته، يجد نفسه الآن متحرراً كثيراً -من تلك القوى الاستعمارية التي انشغلت بصراعاتها المسلحة- مما يعطيه الفرصة ليعيد بناء مجتمعاته بما يملك من مقدرات قومية عظيمة لا تملكها معظم المجتمعات والأمم الأخرى. إنها فرصة تاريخية للوطن العربي للخروج من حالة التبعية لقوى الاستعمار الأوروبية الغربية، وذلك لن يتحقق إلا ببناء استراتيجيات شاملة يقوم عليها أبناء الوطن العربي من أصحاب الكفاءات والخبرات العلمية والفكرية والبحثية، وهم كُثر على امتداد الوطن العربي العظيم.

وإذا كان الوطن العربي أعظم الرابحين، فإن العالم الإسلامي أسمى الرابحين من هذا الصراع الأوروبي المسلح. فبعد سبعين عاماً من الهيمنة الفكرية السلبية لقوى الاستعمار الأوروبية الغربية على السياسة الدولية التي سعت لتشويه صورة الإسلام كدين يحث على العنف، والمسلمين كمتطرفين وإرهابيين، وسوقت تلك الصورة السلبية عبر وسائل إعلامها والمنظمات والجمعيات الدولية التي تتحكم بها، يأتي هذا الصراع الأوروبي المسلح والدامي ليثبت كذب وتدليس تلك المجتمعات الأوروبية تجاه الإسلام والمسلمين، وليؤكد للعالم أجمع أن الذين شوهوا سمعة الإسلام والمسلمين يمارسون تجاه بعضهم البعض أشد أنواع الظلم، والقتل، والتخريب، والتدمير الممنهج، وترهيب الآمنين من الأبرياء والمدنيين. إنها فرصة تاريخية أمام العالم الإسلامي بأن يوضح للعالم أجمع بأن الإسلام دين السلام والوسطية والاعتدال، وبأن المسلمين بناة أوطان ودعاة سلام، وبأن الإرهاب والتطرف والعنف والتدمير جرائم يعاقب عليها الإسلام ويرفضها المسلمون. إنها فرصة تاريخية أمام العالم الإسلامي بأن يؤكد للعالم أجمع ضلالةَ وعدم مصداقية تلك النظرة السلبية والتهمة الباطلة التي أطلقها الأوروبيون كذباً وزوراً على الإسلام والمسلمين لأن هؤلاء الأوروبيون أعظم من مارس العنف والقتل والتدمير والتخريب والترهيب تجاه بعضهم البعض، وتجاه غيرهم على مدى قرون متتابعة، وأوضح من مارس التطرف والإرهاب الفكري والسلوكي بتشويه صورة الإسلام والمسلمين. إنها فرصة تاريخية للعالم الإسلامي للخروج من حالة الاستسلام للتهم الباطلة والمضللة التي ألصقتها قوى الاستعمار الأوروبية بالإسلام والمسلمين، وذلك لن يتحقق إلا ببناء استراتيجيات شاملة يقوم عليها أبناء الأمة الإسلامية من أصحاب الكفاءات العلمية والفكرية والبحثية، وهم كُثر على امتداد العالم الإسلامي العظيم.

وفي مقابل هؤلاء الرابحين الدوليين العديدين، هناك خاسرون دوليون كُثر يأتي على رأسهم أطراف الصراع المُسلح الذين استنزفوا مقدراتهم القومية، وشوهت الحرب صورتهم الإعلامية والدعائية، وعطلت الحرب خططهم التنموية والتطويرية. ويضاف لهؤلاء الخاسرين المجتمعات الأوروبية والغربية حيث فضحت سلوكياتهم هشاشة مبادئهم، وأظهرت ممارساتهم عمق العنصرية المترسخة في مجتمعاتهم، وفضحت كلماتهم وخطاباتهم الإعلامية والدعائية سطيحة التحضر والرقي الذي يدعونه في تعاملاتهم مع غيرهم من الأعراق والأديان.

إن التفاعلات الدولية القائمة -وخاصة حالة الصراع الأوروبية- تمنح الوطن العربي، والعالم الإسلامي، فرصة تاريخية عظيمة للنهوض وتحقيق أعلى معايير التنمية والتطوير والتحديث بعيداً عن الضغوطات السياسية، والهيمنة الاقتصادية والصناعية والتقنية، والابتزازات الأمنية والعسكرية، ليكون الوطن العربي والعالم الإسلامي من المؤثرين الرئيسين في السياسة الدولية وليسوا مجتمعات هامشية.

وفي الختام من الأهمية القول إن حُسن قِراءة التفاعلات الدولية القائمة -وخاصة حالة الصِراع الأوروبية- ستمنح أولئك المبدعين القدرة الحقيقية على تحقيق النجاحات المُتتالية والنهضة الشاملة التي ترتقي بمكانة الأوطان بين باقي الأمم. أما إن غابت تلك القراءة الدقيقة لحالة التفاعلات الدولية القائمة، فإن التبعية ستزداد، والمعاناة ستتضاعف، والاستنزاف المادي والبشري سيتواصل. إنها فرصة تاريخية لتحقيق الربح المؤكد، أو فرصة تاريخية ضائعة تتأكد معها الخسارة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد