عاد موضوع ترسيم الحدود بين تونس وليبيا إلى واجهة النقاش، والسبب هذه المرة تصريحات أدلى بها وزير الدفاع التونسي، خالد السهيلي، أمام البرلمان خلال مناقشة موازنة وزارة الدفاع، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
وجاءت تصريحات الوزير ردًا على سؤال أحد النواب، ويدعى علي زغدود، الذي ينحدر من مدينة بن قردان المتاخمة للحدود الليبية، وأشار النائب خلال مداخلته إلى أن "جزءا كبيرا من الأراضي التونسية ظل خارج الساتر الترابي الذي بنته بلده على حدودها الشرقية" مُبدياً قلقه من احتمالية تحول الساتر إلى حدود طبيعية.
ليرد الوزير بالتأكيد على أن "وزارة الدفاع لم ولن تسمح بالتفريط في أيّ شبر من ترابها الوطني".
ووعد الوزير بزيارة ميدانية للمنطقة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، موضحًا أن "ترسيم الحدود ومتابعتها يتمان عبر لجان مشتركة بين البلدين، على غرار اللجنة التونسية الجزائرية المعنية برسم الحدود".
وفي الوقت الذي بدت فيه إجابة الوزير التونسي مجرد تصريحات عفوية إلا أن نبرته التي وصفتها صحف بالحماسية أعطت انطباعا بأن المسألة حساسة ولا تقبل التأجيل.
ردود فعل متباينة
لم تمر تلك التصريحات مرور الكرام في ليبيا حيث أُثير حولها جدل أكثر ممّا أثير في تونس.
ففي بنغازي، وصف رئيس لجنة الأمن القومي بمجلس النواب، طلال الميهوب، التصريحات بـ "غير مسؤولة"، محذرًا من المساس بالحدود، كما أكد وزير الخارجية الليبي المكلف، الطاهر الباعور، أن ملف ترسيم الحدود قد حُسِم منذ سنوات عبر لجنة مشتركة بين البلدين.
حظي الموضوع باهتمام واسع في الإعلام الليبي، إذ نشرت صحيفة الوسط تقريرًا عن رصد السلطات الأمنية تغييرًا في العلامات الحدودية بمنطقة "سانية الأحيمر"، حيث جرى تحويل إحدى العلامات بمسافة 150 مترًا شرقًا و6 كيلومترات جنوبًا داخل الأراضي التونسية. وبعد احتجاج ليبي، أوضحت السلطات التونسية أن التغيير كان ناتجًا عن خطأ غير مقصود، مؤكدة فتح تحقيق لتصحيح الوضع.
وفي إطار تهدئة الأوضاع، أجرى وزيرا خارجية البلدين اتصالًا هاتفيًا، كما عُقدت محادثات بين رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الليبي والسفير التونسي الذي أوضح أن تصريحات وزير الدفاع التونسي أُخرجت من سياقها.
ورغم أن الأمور تتجه نحو التهدئة، يرى البعض أن هذه الحادثة أُستغلت لإعادة فتح نقاش حول خلاف آخر، وهو الخلاف حول حقل "البوري" النفطي.
فهل هناك خلاف ليبي تونسي حقا حول ترسيم الحدود؟
"من يدير حدود ليبيا؟"
يؤكد أستاذ العلوم الجيوسياسية بالجامعة التونسية، رافع الطيب، أن النزاع الحالي بين تونس وليبيا يتعلق بإدارة الحدود وليس بإعادة ترسيمها.
ويقول في حديثه مع بي بي سي: "الحدود بين تونس وليبيا رُسمت خلال فترة الاستعمار، عندما كانت تونس تحت الاستعمار الفرنسي وليبيا تحت الاحتلال العثماني ثم الإيطالي، وهي حدود واضحة ومعترف بها. لكن طبيعة المنطقة الحدودية المتغيرة بفعل الانجرافات شكلت تحديًا دفع تونس إلى مراقبتها باستمرار لضمان عدم استغلالها من لدن شبكات التهريب."
وأشار الطيب إلى أن "الحدود تتجاوز كونها مجرد معابر للتهريب، فهي تعكس أيضًا تعقيدات أمنية وجيوسياسية. فبعد نجاح تونس في مكافحة الإرهاب في جنوبها، عززت وجود الجيش والأمن، ما أثار قلق الميليشيات التي تعتمد على التهريب. وتصاعدت التوترات بعد حفر تونس خندقًا حدوديًا، مما اعتبرته الميليشيات تهديدًا لمجالها الحيوي."
وتعاني الحدود البحرية بين البلدين أيضًا من تعقيدات متعلقة بتهريب البشر والأنشطة غير القانونية بحسب الطيب إذ يتابع: "تستخدم الميليشيات الليبية الخطوط الحدودية البحرية للهروب من الملاحقة الأمنية، إما عبر المياه الليبية لتجنب القبض عليها من الجانب التونسي، أو إلى المياه التونسية لتفادي العقوبات الأوروبية. ورغم سعي تونس لتطبيق التفاهمات الدولية لمكافحة تهريب البشر، إلا أن الأنشطة الممنهجة والتجاوزات ما زالت مستمرة، خاصة من الجانب الليبي."
ويرى الطيب أن المشكلة تكمن في التشكيل الجيوسياسي المعقد على الحدود.
ويقول" من الجانب التونسي، هناك جيش بتنظيم عسكري واضح واستراتيجية أمنية متماسكة، أما من الجانب الليبي، فهناك خليط من الميليشيات المتصارعة".
ويلفت إلى أن تونس لم تغلق المعبر أمام التجارة ومرور الناس، بل الجانب الليبي هو الذي أغلقه مدة 6 أشهر بدعوى تجديده.
لكن تعقيدات الحدود لا تتوقف على الأطراف الليبية بحسب الطيب، إذ يردف قائلا: "حدودنا اليوم في بعض المجالات ليست مع الدولة الليبية بل مع أطراف أجنبية مثل مع تركيا التي ترى في الحدود التونسية عائقًا أمام مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في ليبيا".
زوبعة في فنجان
من جانب آخر، يرى عارف التير، عميد مدرسة الدراسات الاستراتيجية والدولية بالأكاديمية الليبية، أن المسألة لا تتعدى كونها "زوبعة في فنجان" ولا ترتقي إلى مستوى الخلاف بين تونس وليبيا.
ويقول "العلاقات بين البلدين تتجاوز الحكومات والأفراد، إذ تقوم على مصالح متبادلة وتاريخ طويل من التعاون والتبادل التجاري افة إلى الروابط العائلية وعلاقات المصاهرة التي تجمع الشعبين. وقد أكدت الأحداث الأخيرة، مثل أزمة إغلاق الحدود بسبب تهريب الوقود، هذه الروابط. فقد تدخلت اللجان المختصة سريعًا لمعالجة الوضع وإعادة فتح المعابر، كما التقى وزير الداخلية الليبي بنظيره التونسي، إذ شدد في تصريح له على أن ما يهم التونسيين يهمنا أيضاً."
وبخصوص تصريح وزير الدفاع الدفاع التونسي خالد السهيلي بشأن ملف ترسيم الحدود، يعتقد التير أن ما حدث لا يعدو سوى زلة لسان من الوزير أثناء رده على استفسار حول أراضٍ بين الخندق التونسي والحدود الليبية.
ويكمل " لم تكن هناك نية للتصعيد في النهاية، أكد الوزير التونسي حرص بلاده على كل شبر من أراضيها، وليس في ذلك ما يسيء لليبيا فهو حق مشروع باعتباره أكد مثلما هو حق لليبيا في الدفاع على أراضيها"
وعلى عكس ما ذهب إليه بعضهم من احتمالية توجه ليبيا أو تونس لتدويل القضية، يستبعد التير أن تكون لتلك التصريحات أي تبعات أو تداعيات خطيرة، مضيفا بأن" مسألة الحدود مستقرة ومرسومة منذ عام 1910 دون أي تعديل ومستوى التنسيق بين الدولتين عال ومستمر".
أما فيما يتعلق بالحدود البحرية وما يُثار بين الحين والآخر حول حقل "البوري" النفطي، فيتفق التير مع رأي رافع الطيب بأن مسألة الحقل قد حُسمت لصالح ليبيا ولم تعد تشكل مصدرًا للنزاع.
حقل البوري.. إحياء نزاع منسي
وفي عام 2023، أثار الرئيس التونسي قيس سعيّد جدلاً واسعاً بإعادة طرح قضية حقل البوري النفطي، الذي يقع على بعد 120 كيلومترًا شمالي الساحل الليبي في البحر المتوسط، ويُنتج هذا الحقل، المُكتشف عام 1976، نحو 23 ألف برميل نفط يوميًا.
آنذاك صرّح سعيّد بأن تونس لم تحصل سوى على "الفتات" من الحقل، رغم تسوية النزاع بقرار محكمة العدل الدولية عام 1982 الذي منح السيادة على الحقل لليبيا.
أثارت تصريحات سعيَد غضباً شعبياً ورسمياً في ليبيا، إذ عُدَّت مساساً بسيادة البلاد واستغلالاً للانقسام السياسي. بينما انقسم التونسيون بين مؤيد لها ومنتقد يصفها بالشعبوية ومحاولة لصرف الأنظار عن المشاكل الاقتصادية.
وتعود قضية الجرف القاري إلى السبعينات حين طالبت تونس بأحقيتها في الجرف القاري، لكن المحكمة الدولية حكمت لصالح ليبيا، وأكدت القرار لاحقاً بعد اعتراض تونس.
تبادلات تجارية مستمرة
يصل طول الحدود التونسية الليبية إلى 459 كيلومتر. وعلى هذه الحدود يوجد معبران الأول هو "رأس جدير" والثاني هو "ذهيبة وازن".
يعدّ معبر "رأس جدير" الأهم بين المعبرين ونقطة العبور الرئيسية الحيوية للتجارة والنقل بين تونس وليبيا، حيث يبعد 580 كيلومترًا عن العاصمة التونسية و169 كيلومترًا عن العاصمة الليبية. يشهد المعبر يوميًا عبور آلاف المواطنين ومئات العربات، بما في ذلك الشاحنات التجارية وسيارات الإسعاف.
وفي حديثه معنا يلفت الباحث في العلاقات الدولية والمحلل السياسي التونسي البشير الجويني إلى الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه تحسين إدارة المعابر الحدودية في تخفيف التوترات المتعلقة بالحدود مشيرا إلى أن حل الإشكاليات المرتبطة بالمعابر قد يدعم التعاون الاقتصادي بين البلدين ويخلق أرضية مشتركة لتجاوز وحل الخلافات ."
يشهد "رأس جدير" لوحده مرور أكثر من 1.5 مليون زائر سنويًا يسهمون بتحويلات تصل إلى 4 آلاف دولار للفرد" بحسب الجويني.
ويكمل "كما تُصدر تونس جزءًا كبيرًا من منتجاتها الزراعية والغذائية إلى ليبيا. كما تعتمد حوالي 3 آلاف عائلة تونسية على التجارة الحدودية كمصدر دخل رئيسي، بينما تأتي ليبيا في المرتبة الأولى من حيث التدفقات النقدية إلى تونس.
وتعد ليبيا السوق الرئيسية للاقتصاد التونسي في أفريقيا، حيث تجاوزت صادرات تونس إليها 850 مليون دولار في عام 2023. وتحتل ليبيا المركز الخامس في قائمة الشركاء التجاريين لتونس، بعد فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا. كما يقدر عدد الليبيين الذين يقصدون تونس للعلاج بأكثر من 300 ألف سنويًا، بحسب البيانات الرسمية التونسية.
عن ذلك يقول الجويني "تؤكد الأرقام النشاط المتزايد بين البلدين، سواء من خلال الشركات التونسية العاملة في ليبيا أو تزايد أعداد الليبيين في تونس للعلاج، السياحة، أو الاستثمار، ما يعكس استمرارية العلاقات الوثيقة بين الشعبين ويجعل الحديث عن خلافات حدودية غير مبرر".
ويؤكد الجويني أن البعد الاقتصادي يرتبط بشكل وثيق بالسياسي، مشيرًا إلى وجود محاولات أجنبية لعرقلة التعاون الاقتصادي التونسي الليبي عبر إعادة فتح ترسيم الحدود لخدمة مصالحها الاقتصادية الخاصة، لكنه يشدد على أن التاريخ أثبت قدرة العلاقات الثنائية على تجاوز الأزمات بفضل الروابط الشعبية القوية.
من وحدة مؤقتة إلى تقلبات مستمرة
رغم علاقات المصاهرة وامتداد الحدود البرية، شهدت العلاقات التونسية الليبية تاريخيًا تقلبات متأثرة بتوازنات إقليمية وإكراهات سياسية.
في سبعينات القرن الماضي، وقع الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، والعقيد الليبي، معمر القذافي، اتفاقًا لإقامة وحدة بين البلدين تحت مسمى "الجمهورية العربية الإسلامية". لكن الاتفاق لم يصمد سوى 24 ساعة، إذ تراجع بورقيبة مدفوعا بشكوكه التي غذتها ضغوط السياسيين والمفكرين التونسيين، لتُسجل هذه التجربة كواحدة من أقصر وأكثر المحاولات الوحدوية العربية غرابة.
وأدى إلغاء الاتفاق إلى تصاعد التوتر بين بورقيبة والقذافي، لتتفاقم الأزمة بعد اتهام ليبيا بالتورط في محاولة الإطاحة ببورقيبة فيما عرف بـ"أحداث قفصة" عام 1980، ما أسفر عن إغلاق الحدود بين البلدين وزيادة حدة التوتر الدبلوماسي.
ويشهد تاريخ المعابر الليبية التونسية، مطلع الثمانينات، على عودة قرابة 30 ألف عامل تونسي بعد طردهم من ليبيا.
ولم تفتح الحدود إلا بصعود الرئيس زين العابدين بن علي لحكم تونس سنة 1987، إذ أسهم بن علي في تخفيف تبعات الحظر الاقتصادي المفروض على ليبيا والتوسط لصالح نظام القذافي لدى الغرب بعد أزمة لوكربي، وشكّلت الحدود التونسية منفذاً حيوياً لليبيا خلال العقوبات الدولية (1992-2003).
زودت تونس جارتها بالسلع الغذائية الأساسية، فيما استفادت من البنزين الليبي منخفض التكلفة. وبعد رفع العقوبات، أصبحت ليبيا مركزًا إقليميًا لإعادة تصدير السلع الاستهلاكية القادمة من شرق آسيا إلى تونس. بذلك استمرت العلاقة التكاملية بين الاقتصاديين والنًظامين.
كما لعبت التجارة غير الرسمية دوراً مزدوجاً في تعزيز استقرار النظام التونسي عبر توفير سلع رخيصة، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، خصوصاً في المناطق الحدودية جنوب شرق تونس.
ومع سقوط النّظامين في أعقاب ما عرف بثورات الربيع العربي، دخلت العلاقات الليبية التونسية مرحلة جديدة، كما تطورت التحديات الحدودية لتشمل مسائل السيادة والأمن، وتهريب السلع والبشر، واضطرت سلطات البلدين لإغلاق المعابر الحدودية بينهما وفتحها مرارا. وهو ما انعكس مباشرة على حركة الأفراد والسلع بين البلدين.