لا تزال قراءة مشهد الحرب في السودان يكتنفها الغموض، ولا تزال الحلول المطروحة غير قادرة على الاقتراب من مساحات الحسم.
دخلت الأزمة السودانية شهرها الثالث، والأوضاع تزداد سوءاً، تقديرات الموقف مفتوحة، أصوات البنادق لا تشي بإيقاف متوقع لهذه الحرب في القريب العاجل، اللعبة باتت صفرية، كل طرف يفرض شروطه، لم تصمد الهدن، ولم تنجح في حقن دماء أبناء الوطن الواحد.
الأزمات الإنسانية المتفاقمة تدفع ملايين السودانيين نحو النزوح، خريطة التأزيم تتسع، أفق الاشتباكات بلا سقف محدد، المخاوف تزداد يوماً بعد الآخر، السودان في انتظار إرادة وطنية صادقة لإنقاذه من مستقبل غامض.
المؤشرات الحالية على الأرض تقول إن الأزمة ستأخذ منحى غير محدد المعالم، فالحرب بين الجيش والدعم السريع، لم تعد قاصرة على العاصمة الخرطوم، فإلى جانب ولاية جنوب دارفور، ومدينة جنينة التي شهدت قتالاً ضارياً الأسبوعين الماضيين، فإن الحرب امتدت إلى مدينة الفاشر، ولا تختلف الحال في ولاية شمال كردفان الغربية، عن العاصمة الخرطوم.
القتلى والجرحى في تزايد مستمر، تزداد الصورة قتامة، عندما نقرأ تقارير مكتب الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في السودان، فالأرقام تؤكد أن حصيلة ضحايا الحرب تجاوزت نحو 3000 قتيل، و11800 مصاب، هذا فضلاً عن تقارير «اليونيسيف»، التي تؤكد مقتل أكثر من 330 طفلاً، وإصابة أكثر من 1990 خلال شهر يونيو المنصرم، ووفقاً لتقارير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
فقد تم نزوح نحو 2.5 مليون شخص منذ بداية الصراع في 15 أبريل الماضي، من بينهم مليونا شخص نزحوا إلى الولايات داخل السودان، ونحو 500 ألف شخص آخرين، ذهبوا إلى مصر وأفريقيا الوسطى، وتشاد، وجنوب السودان.
الأمر الأخطر، يتعلق بانهيار الأوضاع الصحية، بعد أن دمرت الحرب المؤسسات الطبية، والمستشفيات، مما أدى إلى توقف ما يزيد على 60 في المائة منها عن العمل، في جميع أنحاء البلاد، سيما في ثلاث ولايات، هي الخرطوم وجنوب ووسط دارفور.
الشاهد، أن المؤسسات الحيوية أصيبت بشلل كبير ينذر بكارثة، تقود أكثر من نصف عدد سكان السودان إلى خط الفقر، فالأرقام التي تحدثنا عنها تتطلب وقفة وقراءة بعمق، قبل أن ينزلق السودان إلى هاوية يصعب الخروج منها.
وسط هذه المشاهد المأساوية، وقبل أن تصبح الحرب السودانية، في عداد الحروب الاعتيادية المنسية، علينا أن نعترف أولاً وأخيراً، أن السودان هو الخاسر الوحيد.
فهذه الدولة صاحبة الحضارة والثقافة وابنة الطيبة والتسامح وقيم التعايش، لا تستحق هذا النوع من الحروب، تاريخها يئن مما احتمله عبر سنوات طويلة، لم يعد السودان قابلاً أن يكون لوحة تنشين لأهداف المصالح الضيقة والسباق نحو الكراسي، وصراع المال والسلطة.
ولا يجب أن نترك السودان هدفاً لسباقات قوى إقليمية ودولية تخطط لنفوذها في واحدة من أهم دول القارة الشابة، أقول لأصحاب المصالح: ارفعوا أيديكم عن السودان، هذا البلد صاحب الثروات والموارد الطبيعية المتميزة، وابن التاريخ المتفرد، والفريد في جغرافيته، يحتاج من جميع التيارات السياسية الفاعلة في السودان، إدراك أهمية اللحظة، وكارثية الأوضاع.
وضرورة إنقاذ هذا الوطن الذي بات جريحاً، جراء هذه الحرب التي تأكل من جسده كل طلعة شمس، لابد من التصرف بحكمة ورشد وعقل مع كل المبادرات والهدن المطروحة لوقف عاجل لإطلاق النار.
فالحفاظ على دولة السودان، بمفهومها الوطني ومؤسساتها، ومقدرات شعبها، أمر لا يمكن تعويضه مرة ثانية، فقد عشنا تجارب لعواصم عدة من حولنا، بعد أن نهشها ما يسمى «الربيع العربي»، فلا تزال هذه العواصم تدفع فواتير الفوضى والتخريب والإرهاب، تحاول جاهدة إصلاح ما تم كسره.
لكن الدواء لا يزال مكلفاً، ومن ثم، فإن اتساع هوة الحرب في السودان، وازدياد مساحة العناد السياسي، والأطماع في مقدرات هذا البلد، ربما يكون مؤشراً لمشاهد أكثر تعقيداً، تنتظر السودان.
ولذا فإن الباحثين عن مساحات في السلطة والمال، عبر الحروب لن يجدوها، إذا انهارت هذه الدولة، فالانهيار يفتح باب الأطماع الخارجية، ويهدد الشعوب، ويدمر الاستقرار، وينقل الأوضاع من «الدولة»، إلى الساحة، وتدفع الشعوب هذا الثمن.
وأخيراً، أستطيع القول إننا في حاجة إلى ضرورات الفهم للحرب السودانية، لكي نستطيع الحكم على واقع الأزمة.