اليوم أيضاً نبقى في الشأن اللبناني. فجلسة مجلس النواب التي تنعقد ظهر اليوم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، إنما هي جلسة مفصلية بين مرشحين، الأول الوزير السابق سليمان فرنجية مرشح "الثنائي الشيعي"، وبالتحديد مرشح "حزب الله"، والثاني الوزير السابق جهاد أزعور مرشح مروحة وطنية واسعة ومتنوعة. الأول يمثل اصطفافاً طابعه الأبرز أمني عسكري أيديولوجي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمحور إقليمي تقوده إيران تحت عنوان "وحدة الساحات"، والثاني يمثل بيئة منفتحة على العرب والعالم، ويمثل في الوقت عينه أكثرية ساحقة في البيئة الطائفية (المسيحية) التي يفترض أن ينتمي إليها الرئيس بحسب التوازنات اللبنانية.
الأول يمثل صورة الماضي والتحصيل المتواضع، والثاني يمثل صورة الحاضر والمستقبل الرفيع بتحصيله وسعة اطلاعه على شؤون العالم وقدرته على فهم مشكلات بلده المعقدة، أكان في السياسة أم في المال أم في الاقتصاد أم في الاجتماع. الأول يمثل مساراً انحدارياً لموقع الدولة وسيادتها يسوده الاحتكام إلى السلاح لتغيير هوية البلاد وتوازناتها عنوة، أما الثاني فيمثل مشروعاً لفتح ثغرات جدية في جدار التنافر الداخلي، ومنح مشروع الدولة متنفساً وباباً للتوسع من دون تحطيم البلاد فوق رؤوس أهلها.
هكذا تمثل جلسة مجلس النواب اليوم مناسبة فريدة بعد أكثر من خمسة عشر عاماً لإعلان انتهاء صلاحية منطق القوة والفرض والغزوات (غزوتا "حزب الله" لبيروت والجبل في 7 و11 أيار/مايو 2008) وبدء عهد الاحتكام إلى منطق صندوقة الاقتراع السلمية الرافض منطق الغلبة الذي يمثله سلاح غير شرعي، يُستخدم تارة لتدجين الداخل وتجويف الدولة ومؤسساتها، وطوراً للأضرار بالمحيط العربي. من هنا سيتوجه النواب اللبنانيون المجلس للإدلاء بأصواتهم في معركة انتخابية مختلفة عما سبقها من انتخابات. ولعل التحدي الأكبر فيها سيتمثل بمواجهة أوسع فريق من اللبنانيين متسلحين بالموقف السياسي السلمي الرافض للقهر، فريقاً مدججاً بالسلاح لم "يبخل" في العقدين الماضيين على اللبنانيين باستخدامه للاقتصاص من قادة استقلاليين سياسيين وصحافيين. ولنا في الحكم الذي نطقت به المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الإرهابية خير مثال عما نشير إليه اليوم!
في مطلق الأحوال، إن الخيار واضح بين مرشح "حزب الله" و"وحدة الساحات" من طهران إلى غزة، والمرشح الأقرب إلى الهوية اللبنانية الطبيعية بسلبياتها وإيجابياتها، هوية تحاول أن تقاوم تلك "المحدلة" المهولة بكل ما تمتلكه من سلاح الموقف. بيد أن سلاح الموقف الداخلي ما عاد كافياً. فللحاضنة العربية دور في عدم ترك اللبنانيين وحيدين في ساحة الدفاع عن وطنهم وعن حاضنتهم العربية. ولذلك تتجه أنظار المواطنين اللبنانيين العاديين إلى تلك الحاضنة العربية وما ستفعله من أجل تجنيب لبنان مساراً انزلاقياً متسارعاً لا أحد يعرف إلى أين سيفضي.
بناءً على تقدم، يجب أن يتوجه النواب اللبنانيون إلى البرلمان للإدلاء بأصواتهم. وبصرف النظر عن الخيارات، من الأفضل أن تستمر العملية الانتخابية بلا انقطاع إلى أن تنتهي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. إما العودة إلى مرحلة الفراغ الرئاسي، ومعه الفراغ الحكومي والمؤسساتي، فستدفع بلبنان إلى مزيد من الانهيار والتحلل، والأخطر أنها ستدفع بالكثيرين إلى رفع شعار الفدرالية كرد فعل مباشرة على سياسة الفرض والإكراه التي يمارسها "حزب الله".