قبل سنة، مع بدء روسيا الحرب الأوكرانية «ميدانياً» كتبتُ في هذا الصفحة ما يلي:
«في السياسة ننسى أحياناً العاملَ الأهم في الصراعات السياسية والعسكرية، ألا وهو (التكلفة). وفي أوكرانيا ثمة مَن يراهن على أنَّ عامل التكلفة سيقرّر ما إذا كانت القراءتان التاريخية والمصلحية لفلاديمير بوتين ستدفعانه أكثر في خيار الصدام والقضم، أم تفرضان عليه منحى أكثر براغماتية وتصالحية يقوم على المناورة بين مواصلة التصعيد، والاكتفاء المرحلي بنجاعة رسالة القوة، وخلق (واقع على الأرض) يضمن الغلبة... ولكن من دون استفزاز مفرط من شأنه استثارة مبرّر للانقلاب عليه».
ثم تابعت: «ولكن هذا الخيار يحمل مجازفة كبرى مزدوجة بوجود مَن يشكون في تأثير العقوبات الاقتصادية على زعيم عنيد وصلب صنعت هويته السياسية طبيعته الأمنية، وقناعاته (السلافية) (التي لا تميز بين روسيا وأوكرانيا أصلاً)، وترقّيه الوظيفي في معارج نظام شمولي أمني تقاسم السيادة على العالم لعشرات السنين، ومرارته العميقة لخسارة هذه السيادة. عند شخصية من هذا النوع الرهان على الخوف من (التكلفة) قد لا يكون رهاناً حكيماً. هنا تبرز الاعتبارات الكفيلة بجعل التسوية السياسية ممكنة، وعلى رأسها التواصل البنّاء مع عدد من الجهات الدولية الفاعلة خارج أوروبا، والإصغاء إلى أصواتها وتفهّم أسباب ترددها في دعم التصدي الغربي للغزو، من دون تأييدها له».
والآن، بعد مرور سنة من الحرب، وعلى الرغم من كل الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية، والتحولات في عدد من المواقف الدولية، فلا يزال العنصر المركزي في هذه الحرب - المأزق عصياً على التغيير. ولا تزال مسألة «التكلفة»... «رمادية» كي لا نستخدم نعتاً آخر.
فمن جهة، ما زال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يجد ما يدفعه إلى الانكفاء. ومن جهة ثانية، ليس بوسع القيادة الأوكرانية التراجع في معركة تدرك أنها ستُنهي وجود أوكرانيا كدولة مستقلة إذا سمح الغرب لبوتين وجنرالاته بتحقيق النصر.
وبالفعل، بعد مرور سنة، يظل عامل التكلفة قليل التأثير في المعادلة الأوكرانية. وكما ذكرت «الشرق الأوسط» بالأمس: «مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني تتعهّد كل من موسكو وكييف بتحقيق الانتصار، لكن الانتصارات الحاسمة تبدو مستبعدة ومؤجلة، وتبرز التساؤلات مجدداً عن آفاق المواجهة المتفاقمة، وطبيعة نقطة النهاية فيها في ظلّ إجماع كل الأطراف المنخرطة في الحرب على صعوبة دفع تسوية سياسية لم تنضج ظروفها بعد».
في هذه الأثناء تغير المشهد في غير مكان من دون أن يمسّ المصالح التي تعتبرها كل من موسكو وكييف حيوية يستحيل التنازل فيها. وشهدنا التغيّر الأبرز خلال الأشهر الـ12 الأخيرة في أوروبا، سواء على المستوى السياسي أو المستوى الاقتصادي أو المستوى الاستراتيجي العسكري.
دول عدة تخلّت عن ثوابت أساسية في سياستها الخارجية في مقدمها السويد وفنلندا وألمانيا.
السويد وفنلندا تتجهان الآن جدياً نحو عضوية حلف شمال الأطلسي «ناتو»... بعدما أحجمتا طويلاً عن اللحاق بالنرويج، التي هي التخم الشمالي الشرقي للحلف. ولئن كانت السويد ملاصقة للنرويج، فإنها في أيام جبروتها خاضت ما لا يقل عن 12 حرباً مع روسيا بين القرن الـ12 والعقد الأول من القرن الـ19. وفيما يخص فنلندا فإنها تتقاسم هويتها العرقية والثقافية مع مكوّنين جغرافيين عاشا طويلاً في ظل موسكو، الأول جمهورية إستونيا المستقلة حالياً - و«السوفياتية» سابقاً - عبر خليج فنلندا، والثاني جمهورية كاريليا «الذاتية الحكم» التابعة لروسيا، التي تحد الأراضي الفنلندية من الشرق.
أما ألمانيا فحساباتها أكبر وأخطر، ذلك أنها ثاني أكبر دول أوروبا من حيث عدد السكان بعد روسيا. وهي القوة الإمبراطورية السابقة - انطلاقاً من بروسيا، عمودها الفقري التاريخي - التي هيمنت على قلب القارة الأوروبية، والتي بات جزء منها هو قطاع كالينينغراد (بروسيا الشرقية) أرضاً روسية. وبالتالي، ليس قليلاً أن تُقدِم ألمانيا على تغيير عقيدتها الدفاعية و«تعسكِر» حضورها وثقلها السياسي في المسرح الأوروبي... لأول مرة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.
أيضاً ليس قليلاً أن تضطر الدولة الأغنى في أوروبا لحرمان نفسها واقتصادها القويّ من إمدادات الغاز الروسي من أجل معاقبة موسكو والتضامن مع «شريكاتها» الغربيات، وهي التي لا نفط أو غاز لديها في بحر الشمال كحال بريطانيا، ولا هي مُطلّة على المتوسط حيث حقول الغاز المتوسطية والشمال أفريقية القريبة المنال.
يضاف إلى الدول الثلاث المذكورة، وقفت وتقف دول أخرى مثل بريطانيا وفرنسا صراحةً وبحزم ضد موسكو، وأسهمت في تقديم السلاح ومختلف أنواع الدعم اللوجيستي للقوات الأوكرانية المدافعة. ولكن في المقابل، أربكت الحرب الحسابات السياسية في جملة من العواصم والتيارات الأوروبية، لا سيما تلك التي تجد عداء موسكو نهجاً غير مأمون العواقب... وبالأخص، إذا كان ثمة سقف لحجم التدخل الأميركي، في ظل قلق واشنطن من سير القيادة الصينية على خطى الكرملين بحسم «المطالبات» الجيو سياسية العالقة بالقوة.
وفي هذا الصدد، واضحٌ أن واشنطن ترصد راهناً بحذر وجدّية مسار التنسيق بين موسكو وبكين، في حال كان هذا الأمر موجوداً. وطبعاً، تتحوّف من استغلال بكين الحرب الأوكرانية لإنهاء موضوع تايوان وفق فكرة «الإعادة إلى الوطن الأم»... كحال شبه جزيرة القرم، ثم أوكرانيا كلها، في المنطق الروسي.
حتى اللحظة، فضّلت بكين خيار التعامل التطميني الهادئ وتجنّب الاستفزاز، الأمر الذي يكفي واشنطن حالياً. بل إن الموقف الصيني هذا قد يساعد في الخروج من «الحلقة المفرغة» التي يدور فيها الجميع، فيؤمّن للأطراف المعنية بالحرب الأوكرانية مخرجاً ينقذ ماء الوجه... لا سيما لبوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ولكن على جانب آخر، ثمة هموم عالمية أوسع حتى من المسرح الأوروبي، وما يمكن أن يستجد في الشرق الأقصى، في طليعتها تدخل إيران الخمينية في الواقع السياسي والعسكري الأوروبي، وطبعاً صحة الاقتصاد العالمي... من أمن الطاقة إلى الأمن الغذائي.
التدخل الإيراني الميداني - علناً - إلى جانب موسكو في أوكرانيا رسالة ابتزازية خطرة إلى عواصم «ناتو». أما إذا كانت الحرب الدائرة في أرض تُعد «سلة غذاء» عالمية تعني الشعبين الروسي والأوكراني مباشرة، فهي تمس أيضاً الاستقرار والمصالح الحيوية للعديد من دول العالم، وسط تدفق شحنات الأسلحة الغربية على أوكرانيا، والتشديد المتصاعد للعقوبات الغربية على حكم روسي مقتنع بأنه إنما يحارب دفاعاً عن أرضه وهويته ومستقبله.
أوكرانيا: سنة مؤلمة على اندلاع الحرب ـ المأزق
مواضيع ذات صلة