حينما أقدم بوتين على إتخاذ قرار غزو أوكرانيا وأعطى أوامره بذلك، لا بد وأن هنالك أهداف معينة كان يسعى لتحقيقها، لم يخفي بعضها، مثل عزل أوكرانيا عن أوروبا، وإسقاط عاصمتها وربما محوها من الخريطة، وتهديد أوروبا وتشتيتها، ودفن أسطورة حلف الناتو وأوروبا الموحدة، وإنهاء مبدأ القطب الواحد الذي يحكم العالم ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية وإحراجها. لكن حتى الآن يبدو أن بوتين قد حقق بحملته العسكرية النقيض تماماً مما كان يسعى إليه، وأن خطته باتت متعثرة في أكثر من جانب، رغم إدعاءه بأن كل شيء يسير على ما يرام وكما مخطط له. فهل خطط بالذكاء الذي كنا نظن أنه يتمتع به، لكنه أخطأ بالتقدير؟ أم كان قراره لحظة رعونة لزعيم معتوه مصاب بجنون العظمة؟ أم أنه غبي، رغم أن تأريخه يثبت عكس ذلك؟
فأوكرانيا كانت حتى الأمس القريب دولة منغلقة شبه معزولة عن أوروبا الغربية، لكنه جعلها محط أنظار ليس فقط أوروبا، بل والعالم، الذي بات متعاطفاً معها راغباً بمساعدتها. وكانت بالأمس تتوسل مُبدية رغبتها بدخول الإتحاد الأوروبي والناتو، ويأتيها الجواب دائماً بالرفض لعدم إستيفائها للشروط، ولإن رغبتها كانت تعتبر غير مُبَرّرة، لكنها باتت اليوم رغبة مشروعة قابلة للنقاش. وتوقع بوتين أن يصل الى العاصمة كييف ويسقطها خلال أيام، لكن التوقعات الحالية ترجح إستمرار المواجهات لعدة أسابيع. إضافة الى نجاحه في تحويل ممثل كوميدي لم يكن له حضور يُذكر على مسرح السياسية الأوروبية والعالمية إلى زعيم سياسي بات يقف له كنِد بعد أن كان يتجنبه. كما أنهى الموت السريري لحلف الناتو وأعاد إليه الروح ووحد دوَله الأعضاء. وأعاد الشباب الى القارة التي طالما وصفها أعداءها بالعجوز. وأثبتت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال حشدها تأييد ساحق لقرار إدانة غزوه لأوكرانيا في الأمم المتحدة بأنها ما تزال الى حد كبير، القطب الأوحد الذي بإمكانه أن يوجه العالم. وَوَجّه أنظارها إليه، بعد أن كانت قد آمِنَت جانبه وبَدأت تتفرغ للصين. وذكرها بأهمية أوروبا كحليفة لا غنى عنها، وبضرورة تواجدها فيها. بالنتيجة حقق بوتين لأوروبا في خمسة أيام ما عَجز ماكرون عن تحقيقه في خمس سنوات، وهو بلورة أوروبا القوية. بالإضافة طبعاً الى تعريض بلاده لعقوبات صارمة وموجعة، أقرها الغرب وحلفاءه لإضعاف قوة وإمكانيات نظامه، والتي دخلت حيز التنفيذ وبدأت تؤتي ثمارها وتوجع نظامه في العمق بسرعة لافتة.
حملته العسكرية دفعت أيضاً أغلب الدول الأوروبية الى إعادة النظر بسياساتها العسكرية التي إعتمدتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لإجماعها آنذاك على عدم الدخول في حروب مع بعضها البعض بعد ما عانته من ويلات. كألمانيا مثلاً، عملاق أوروبا النائم الذي أيقظه بوتين، والتي أعلنت قبل أيام تخصيص 100 مليار يورو لصندوق خاص يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية للقوات المسلحة الألمانية، بعد أن وَضَع صُنّاع القرار في برلين أياديهم على القصور الذي تسَرّب الى مفاصل هذه القوات خلال السنوات الماضية، سواء فيما يتعلق بجاهزيتها القتالية، أو مواردها المالية، خلافًا للسياسة الألمانية المعتمدة منذ عقود. فقد كانت الحكومات الألمانية مِن أكثر الحكومات الأوروبية ترَدّداً في تعزيز منظومتها العسكرية وزيادة ميزانية الدفاع. وهو ما جعلها عُرضة للإنتقاد بسبب الحالة المُزرية التي وصلت إليها هذه المنظومة، خصوصاً وأن ألمانيا واحدة من أبرز الدول في الصناعات العسكرية.
أما التصويت على قرار الأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد كشف حَجم عزلة بوتين بعد أيام معدودة من حملته العسكرية، حتى بين أقرب حلفائه. فقد رفضت الصين مثلاً دعم حليفتها المقربة عبر إستخدام حق الفيتو ضد القرار، وإكتفت بالإمتناع عَن التصويت عليه، وأدلى سفيرها في الأمم المتحدة بتصريحات كانت مخيبة لآمال موسكو، دعا فيها إلى إحترام سيادة ووحدة أراضي أوكرانيا، وقال "يجب أن تصبح أوكرانيا جسراً بين الشرق والغرب، وليس نقطة مواجهة بينهما"، وإكتفى بدَعوة خجولة إلى تفهم مخاوف روسيا من إنضمام أوكرانيا للناتو. وهي فرصة ذهبية ينبغي على أمريكا إستغلالها لإقناع الصين عن طريق الدبلوماسية الناعمة بأفضلية شراكتها وعلاقاتها الإقتصادية الجبارة مع الغرب، على شراكتها وعلاقاتها الآديولوجية الهَشة مع موسكو.
بريطانيا من جهتها، بَدّدت آمال بوتين في تقسيم الغرب، فعلى الرغم من خروجها من الإتحاد الأوروبي، إلا أن الأزمة الحالية، كشفت لها قربها من أوروبا، وهو ما أصاب بوتين في مقتل. فإذا كانت هناك نقطة تحول في تاريخ أوروبا الغربية الحديث قد أحبها بوتين، ستكون بالتأكيد البريكست. فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو مثال لما يهدف إليه الرئيس الرئيس الروسي من خلال سياسته، أي تقسيم أوروبا. كما أن آماله في ألا يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى دق إسفين بين دول الاتحاد الأوروبي المتبقية، وإلى زعزعة استقرار الناتو، لم تتحقق وذهبت أدراج رياح غزوته لأوكرانيا، التي دفعت الأوروبيين الى الإصطفاف أمام ريحها العاتية كبنيان مرصوص، بدلاً من أن تفرقهم كما كان ينتظر. ربما إتسعت الهوة بين بريطانيا وأوروبا في وقت من الأوقات لأسباب معينة قابلة للنقاش، لكن بوتين جعل لندن الآن أقرب إلى بروكسل لأسباب لا نقاش فيها، وجعل الحكومة البريطانية تدرك أن مكانة بريطانيا عالمياً وليس فقط جغرافياً تكمن في أوروبا، وأن مصالح بلادها الأمنية مرتبطة بمصالح الاتحاد الأوروبي الأمنية، وقد عَبّرَت بدَورِها عَن ذلك مِن خلال شحنات الأسلحة المبكرة التي أرسلتها إلى أوكرانيا، الى جانب جهود جونسون لحظر البنوك الروسية من شبكة Swift. منذ الأيام الأولى للغزو وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي تسير في نفس الاتجاه، إذ يتم تبادل المعلومات الإستخبارية وتنسيق العقوبات الاقتصادية بشكل وثيق بينهم، ومع الولايات المتحدة طبعاً. فالحلفاء الغربيون يتصرفون اليوم كواحد، كما لم يسبق لهم أن فعلوا منذ عقود. ولديهم عدو مشترك واحد،هو الجالس في الكرملين. بالتالي حرب بوتين بدّدَت الأوهام التي نشأ عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي تمثلت في حُلم "بريطانيا عالمية" عِبر الإبتعاد قليلاً عَن أوروبا إقتصادياً وسياساً وأمنياً، والتوجه أكثر نحو أسواق إقتصادية وتحالفات أمنية في أماكن أخرى من العالم، ربما كان بوتين يَحلم أن تكون بلاده إحداها.
حتى الطقس غَدَر ببوتين، وجَرَت رياحه بما لا تشتهي دباباته. فالربيع في روسيا وأوكرانيا هو موسم ذوبان الثلوج وتحول التربة الى طينية، وهو ما سيُعيق ويشل حركة قطعات بوتين، ويعطي أفضلية للأوكرانيين في مواجهتها، خصوصاً وأنها تعاني مِن التوقف بين حين وآخر، بسَبب نجاح الأوكرانيين في قطع إمدادات الوقود عنها، وإعاقة وصولها للمناطق المستهدفة، وتحولها الى هدف سَهل لقناصيهم. بالإضافة طبعاً الى تدَنّي الروح المعنوية لبعض قطعات الجيش الروسي، والتي تسَبّبَت أحياناً بإستسلام أو هروب البعض، بعد أن واجهت مقاومة شرسة لم تكن تنتظرها، وبأسلوب لم تكن تتوقعه يعتمد على الدفاع في العمق، مما أضعف قدرتها على المناورة. بالتالي المعركة التي يخوضها بوتين في أوكرانيا اليوم، ليسَت تلك التي توَقعها وأوهَم بها جيشه! فقد كان يفترض أن تكون سريعة وخاطفة لا بطيئة ومتعثرة كما يحدث الآن، وأن تحقق أهداف معروفة نعيش اليوم نقيضها، وهو على الأغلب ما لم يكن بوتين ينتظره أو يتوقعه! فهل سيتوقف ليعيد حساباته؟ أم سيَمضي في طريقه المجهول العواقب الى النهاية عملاً بمقولة الطغاة المستهترين من أمثاله "عليّ وعلى أعدائي"؟