الحلة (العراق): للمرة الأولى منذ نحو 20 عاما، امتلأت عتبات المسرح البابلي الأثري في وسط العراق بآلاف الشباب والنساء والرجال والأطفال الذين شاركوا في لوحات رقص ومعارض فنية واستمعوا الى الموسيقى والأغاني، في أول عودة لمهرجان بابل بعد سلسلة حروب وأزمات.
في بلد لا تزال تنشط فيه خلايا لتنظيم الدولة الإسلامية ويعيش على وقع توتر سياسي وأمني مستمر، شارك عراقيون أتوا من مناطق مختلفة في أجواء من الفرح والرقص والغناء، بمشاركة فرق فنية عراقية وعربية ودولية، على مدى خمسة أيام ذكّرتهم بأيام خلت.
وعبّرت شيماء البالغة من العمر 45 عاما عن سعادتها العارمة بعودة فعاليات المهرجان الذي يعيد إلى ذهنها ذكريات الطفولة في المسرح البابلي الذي يرجح أن الإسكندر المقدوني بناه قرابة العام 311 قبل الميلاد.
وقالت المرأة التي غطت رأسها بوشاح أنيق ووقفت إلى جانبها ابنتيها، "سعيدون جداً أننا هنا، لم نر هكذا مهرجان منذ سنين. أرى في ذلك تطوراً وتغييراً عن الظروف السيئة التي مررنا بها".
كان عام 2002 آخر نسخة من المهرجان الذي انطلق للمرة الأولى في العام 1987 خلال زمن نظام صدام حسين، ولا يزال قصره الذي بناه قرب موقع بابل الأثري، قائماً في المكان.
توقّف المهرجان بعد سقوط نظام صدام حسين عقب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، بعدما دخلت البلاد بدوامة عنف، من حرب طائفية وتفجيرات متواصلة، ثمّ سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية بين عامي 2014 و2017.
وقالت شيماء المقيمة في مدينة الحلة "كنت أتابع هذا الحدث عندما كنت طفلة"، مشيرة الى أن بابل اليوم "مهملة"، ومتمنية أن "يتم تنشيط السياحة" في المدينة التي تقع على بعد نحو 116 كلم عن بغداد.
وعلى الرغم من أنها موطن لآثار مهمة مدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، تعاني مدينة الحلة التي يوجد فيها موقع بابل الأثري من إهمال شديد وتدهور في البنى التحتية.
عند مدخل بابل، بوابة عشتار الزمردية التي تقبع نسختها الأصلية التي بناها نبوخذنصر الثاني في العام 585 قبل الميلاد في برلين، تقلّ عربة تجرّها أحصنة، العائلات الراغبة بمشاهدة معارض الكتب والتصوير المقامة داخل المدينة الأثرية.
ويروي المصور الفوتوغرافي حيدر المسلماوي الذي عرض صوراً له التقطها من العراق ومن دول أخرى في العالم أنه أقام المعرض الخاص به بتمويل ذاتي.
مع ذلك، عبّر عن سعادته باستئناف المهرجان "لأنه سينعش الفن والثقافة وحتى الاقتصاد العراقي. وهو واجهة للفن والثقافة العراقية".
في الكواليس في الحديقة الواقعة خلف المسرح، كانت فرق فنية أردنية ومصرية وفلسطينية وصربية وأرمنية وروسية وهندية، تتدرّب قبل أن تمرّ على المسرح لتقديم عروضها.
وروى مدير الفرقة الأردنية للفنون الشعبية ياسر العردواي أنه سعيد جدا للمشاركة في هذا الحدث، بعدما شارك فيه في العام 2001 بالفرقة نفسها، حينما كان طفلاً.
وقال لفرانس برس وقد اعتمر كوفية أردنية حمراء وبيضاء "يعني لنا كثيراً أن مهرجان بابل عاد بعد 20 سنة. هذا يعني عودة الأمن والأمان للعراق".
كذلك عاد رئيس فرقة الأهرام المصرية التي تقدم الفولوكلور المصري محمد فتحي إلى بابل بعد أكثر من 20 عاماً. وقال بينما كانت فرقته في الخلفية تعزف الإيقاعات الشعبية المصرية، وقد ارتدى أفرادها أزياء تراثية صعيدية، "كنت هنا راقصاً بالفرقة المصرية في التسعينات. والآن عدت مخرجاً".
في الجانب الآخر من الحديقة، كان أعضاء فرقة "كارني" الأرمنية يتدربون بأزيائهم التراثية على عرضهم.
وتضافرت مؤسسات أهلية وخاصة لتمويل المهرجان، وفق ما قال المدير التنفيذي للمهرجان محمد الربيعي.
ولم تكن هذه المشكلة الوحيدة التي تم اجتيازها.
فقد أثار المهرجان جدلا قبل يومين من انطلاقته، بعدما رفع طلب من المحافظ بإلغاء الفقرات الغنائية "استجابة لطلبات ومناشدات طلبة العلوم الدينية والشخصيات الاجتماعية".
وقال الربيعي لفرانس برس "هذا كرنفال فرح يعكس الثقافة العراقية. ونقول للآخر نحن هنا ولدينا وجود"، مضيفاً "طبعاً هناك مخاوف وقلق ولا بد أن نعطي للآخر حساب، في كل بلد هناك أفكار متعددة وعلينا أن نحترم الرأي الآخر".
وقال علي صالح البالغ من العمر 36 عاماً والذي جاء من الديوانية على بعد 80 كلم عن الحلة لمشاهدة حفل الافتتاح "هذا المهرجان يعكس ثقافة العراق وهو تعبير عن حرية العراقيين، نحن ظلمنا منذ عهد صدام حسين وما بعد عام 2003... بسبب الأحزاب التي دمرت بلادنا وحضارتنا".
وأضاف "يجب أن نعيد هذا التراث وهذا الجمال إلى العراق. لا نخاف. حريتي أن أغني ولا يمكن لأحد أن يمنع ذلك. ولاية الفقيه لن تحصل في العراق"، في إشارة إلى إيران التي تملك نفوذاً كبيرا في البلاد.
من معرض الفنون التشكيلية، قال الفنان التشكيلي شبيب المدحتي إن المهرجان "رسالة إلى كل العالم بأن العراق لا يزال لديه فن".
وأضاف "من يرفض فليرفض، هذه وجهة نظره. نحن نواصل عملنا الذي ليس فيه أذية أو ضرر على المجتمع".